عندما شرعتُ في كتابة هذه المقالة كعربون وفاء لمهنة المتاعب بعد نبأ اغتيال مراسلة قناة العربية المغدورة أطوار بهجت السامرائي، أردتُ أن أبحث لأتعرف عن شئ من سيرة حياة هذه الصحافية الشجاعة الباسلة، فإذا بي أجدها قد كتبت مقالة في صحيفة "القدس العربي" قبل سنة بالضبط من اغتيالها بعنوان " كلنا تيسير علوني" وهي تبدي تضامنها مع مراسل الجزيرة تيسير علوني، حيث تقول أطوار في خاتمة مقالتها تلك " أي حال ينتظرنا نحن الذين كلنا تيسير علوني"، وكأنها كانت تعلم تاما المصير المرعب الذي كان ينتظرها في سامراء، فعجبتُ لحال هؤلاء الصحافيون، يساند بعضهم بعضا، وفي ذات الوقت ينعى بعضهم بعضا، ولا يوجد من يضمد جراحهم أو يشد من أزرهم، أو حتى من يحميهم من رصاص الغدر الآثم، فعندما قُتل مراسل الجزيرة طارق أيوب في بغداد نعاه ياسر أبوهلالة في عمان، وعندما اغتيل الصحافي الليبي ضيف الغزال كتب عنه محمد كريشان، وعندما قتل جبران تويني كتب عنه أحمد الفيتوري، وعندما حُكم ظلما على تيسير علوني كتبت عنه أطوار بهجت، وها نحن اليوم نكتب عن أطوار وزميليها الذين قتلوا وهم يؤدون رسالتهم الإعلامية النبيلة بالسعي وراء الحقيقة ونقلها مثلما هي دون أي رتوش.

لقد بدا مشهد اغتيال أطوار واثنين من زملائها، حزينا وكئيبا، كما لو أنه كُتب على مهنة الصحافة أن يستمر جرحها النازف إلى أمد مجهول، وقد جاء هذا اليوم تتويجا لحملة يقف خلفها الغدر الآثم الذي يحاول زرع الخوف والهلع في نفوس الصحافيين، على نحو متسلسل من الغدر المدجج من قبل النظام الإنجلو أمريكي ومرتزقته الذين يتاجرون بمصير هذا الشعب الجريح، لقد كان يوما ممرغا بدم كادر إعلامي آخر يسعى جاهدا لإيصال الحقيقة.

إن ما جرى لأطوار بهجت وزميليها ليؤكد ما قلناه سابقا ونقوله الآن أيضا من أن مهنة الصحافة ليست كما يظن البعض للأبهة والتمظهر والوجاهة والتفاخر بحمل البطاقة الصحفية، والتردد على نقابة الصحافيين لحضور الاجتماعات والندوات، والجلوس على الكراسي الدوارة داخل المكاتب الصحفية المجهزة بكل وسائل الراحة والاسترخاء، والدعوة لحضور الولائم الفاخرة ذات اليمين وذات الشمال، واحتساء الشاي وتناول المرطبات بعد إجراء الحوارات والمقابلات الصحفية مع الشخصيات المرموقة، وإنما حياة الصحافيين ومهنة الصحافة في عالمنا العربي غير ذلك تماما، فهي مهنة الجد والكد، التعب والنصب، الشقاء والمعاناة، السهر والقهر، الألم والـدم أحيانا.

وبالفعل فإن هذا ما حدث مع أطوار، فقد عانت أطوار كما عانى الصحافيون في العراق كثيراً من مخاطر الحرب وويلاتها، وهم يحاولون نقل الأخبار أولا بأول إلى مؤسساتهم الإعلامية، إلا أن أطوار استطاعت وبشجاعة منقطعة النظير أن تنقل أحداث هذه الحرب ومجرياتها بكل موضوعية ونزاهة وحياد تحت قصف ووابل نيران قوات الاحتلال الأمريكي، كما استطاعت مواصلة عملها كمراسلة من الميدان الساخن رغم الخطورة والموت المحقق الذي كان يرافقها في كل لحظة من لحظات عملها، ومما يؤكد شجاعة هذه الصحافية العراقية الباسلة ذات الكفاءة والموضوعية المهنية العالية أنها أول امرأة عراقية تذهب للدوام والعمل خلال الحرب الأمريكية على العراق، إذ لم تلتزم بقرار وزارة الإعلام العراقية السابقة التي أصدرت تعميماً منعت بموجبه النساء من الدوام أثناء الحرب، وكانت تقوم بتأدية واجبها الصحفي والإعلامي على أحسن وجه، رغم المصاعب الكثيرة والخطيرة.

لقد كانت أطوار تحلم باستقرار وطنها الجريح العراق، وخروج المحتل الأمريكي منه، وتكاتف جميع طوائف الشعب العراقي وأديانه، كما كانت مثالاً صادقاً للتعايش المشترك بين فئات المجتمع العراقي المختلفة حيث نشأت وترعرعت في كنف أب سني وأم شيعية بعيدين كل البعد عن التعصب والمذهبية، الأمر الذي يبين هوية الجناة الذين أقدموا على هذه الجريمة النكراء، فكونها سنية وشيعية في ذات الوقت فإن هذا يجعل عملية استهدافها من كلتا الطائفتين أمر مستبعد تماما، وبالتالي يكون الاحتمال الأقرب هو دخول جهات أخرى على الخط، من الذين يعكر عليهم صفو متعتهم بثروات العراق وخيراته صوت الصحافة الصادق الحر، وأيا ً كان الجاني الحقيقي فإن أطوار راحت ضحية أيادي الغدر الآثمة، وباستشهادها سقطت ورقة جديدة من شجرة الصحافة في العراق المحتل الذي بات الصحافيون فيه اليوم بين قتل ينهي تأدية المهمة، أو خطف يقطع وصول الكلمة، أو ترويع تضيع معه الحقيقة.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية