يغرق العراق في دمه ولا يكفّ عن الغرق. شلال دمه يتدفق منذ بدء الإحتلال ولا يتوقف. إنها حرب أميركا عليه وحربه على نفسه. الحرب الأميركية والحرب الطائفية تداخلتا فإزداد شلال الدم كمّا وحجما، مهدداً سدّ مناعته بالإنهيار ووحدته بالتصدع والإنقسام. غير أن العراق عصيّ على التقسيم رغم كل محاولات التفكيك والشرذمة. لماذا ؟ لأن له عمود فقري إسمه الجيش وعطيّة من الله والطبيعة إسمها النفط. فالعراق هِبَةُ النفط والجيش معاً. في العهد العثماني كان العراق مؤلفاً من ثلاث ولايات: بغداد والموصل والبصرة. لم يكن قطراً موحداً بل كان ثلاث وحدات إدارية مرتبطة بالسلطان العثماني في الأستانة. بعد إنهيار السلطنة العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى ومباشرة بريطانيا تنفيذ أحكام إتفاقية " سايكس– بيكو " مع فرنسا، جرى توحيد الولايات الثلاث في دولة واحدة، نُصّب على رأسها الأمير فيصل بن الحسين الهاشمي ملكاً.
مذْ قام العراق بكيانه الجديد، كان للجيش الفتي الناشيء دور مركزي في توحيده وتصليب عوده، حتى ليمكن القول إن الجيش نسج من حوله، برعاية الملك ورقابة البريطانيين، الدولة الوليدة. كان الجيش وظلّ لحين حلّه بقرار من بول بريمر بعد الإحتلال الأميركي، العمود الفقري للدولة وحامي وحدتها وموطّد سلطتها في أربع جهات البلاد. إلى ذلك، كان للجيش دائماً دور وطني في مفاصل تاريخ العراق. فهو القوة الدافعة والحامية لحركـة رشيد عالي الكيلاني ضد الإحتلال البريطاني في مطالع الأربعينات من القرن الماضي. وهو القوة القومية التي شاركت في كل حروب العرب ضد اسرائيل. وهو القوة الضاربة التي أزاحت النظام الملكي ومعه حلف بغداد في ثورة العام 1958. وهو القوة المتغلبة على نظام عبد الكريم قاسم العام 1963، ومن ثم على نظام عبد الرحمن عارف العام 1968. أخيراً وليس آخراً، الجيش هو سيف حزب البعث وترسه في تثبيت نظامه من العام 1968 لغايـة سقوط بغداد في أيدي الإحتلال الأميركي العام 2003. وقبل ذلك، كان الجيش هو القوة الأساس في الحرب العراقية – الإيرانية من 1980 لغاية 1988، والقوة المنفذة لإجتياح الكويت العام 1990.
بموازاة الجيش كقوة تأليف وتوحيد وتوطيد، كان ثمة عامل آخر شديد الفعالية والأهمية. إنه النفط الذي بوشر بإستثماره أواخر العشرينات، وأخذت عائداته بالتزايد وبلعب دور متعاظم التأثير في بناء النفوذ السياسي وتوسيع التنمية الإقتصادية والإجتماعية بدءا من منتصف الخمسينات. وليس من قبيل المغالاة القول إنه إذا كانت مصر هي هِبَةَ النيل فإن العراق المعاصر هو هِبَة النفط. ذلك ان للنفط دوراً فاعلاً ليس في توفير موارد مالية ضخمة للدولة فحسب بل أيضاً من حيث إمتداد أنابيب نقله من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، وآباره المنتشرة في الشمال والوسط والجنوب، ومنشآته ومصافيه (معامل التكرير) وألوف الموظفين والمستخدمين والفنيين العاملين في مختلف مؤسساته وأجهزته، فتشكّلت نتيجة ذلك كله شبكة حياة وتواصل وتكامل بين مختلف أنحاء البلاد وقطاعات الشعب.
بفضل الجيش والنفط بنى العراق قوةً ذاتية مميزة، وتطور إلى قوة إقليمية وازنة، لعلها كانت سببا رئيسا في إستعدائه أميركيا وأوروبيا، ودافعاً لإحتلاله وتدميره.
اليوم وقد فشل الأميركيون فشلا ذريعاً في السيطرة على العراق وفي تحقيق أغراضهم السياسية والإستراتيجية فيه وعبره، تَكثرُ الأحاديث والتسريبات حول سيناريوهات تعدّها إدارة بوش للخروج من مأزقها ومحنتها في بلاد الرافدين. أبرز هذه السيناريوهات ثلاثة: واحد يتحدث عن إنقلاب ابيض يطيح حكومة نوري المالكي ويأتي بحكومة جديدة ذات قاعدة تمثيلية أوسع لتتولى، بمشاركة ميدانية فاعلة من الجيش العراقي، ضرب الميليشيات الطائفية وعصابـات العنف الأعمى من أي لونٍ أو مذهب، تمهيداً لخلق ظروف ميدانية وسياسية ضاغطة تُكره إدارة بوش على تنفيذ خطة إنسحاب متدرج.
السيناريو الثاني يتحدث عن دور أكثر نفوذاً وفعالية للجيش العراقي في محافظـات بغداد ونينوى (الموصل) وصلاح الدين والتأميم وديالى والانبار. في هذا السياق يمكن تغيير حكومة المالكي للمجيء بحكومة أكثر تمثيلاً لقوى المعارضة، لاسيما لمنظمات المقاومة، لتقوم بإستيعاب أعداد اكبر وأعلى نوعية من صفوف الجيش العراقي القديم ذي الصفـة القومية الجامعـة (ضباط وصفوف ضباط وأفراد من أهل الشيعة وأهل السنّة والأقليات متصفون بوحدة تربيتهم السياسية وعقيدتهم القتالية وسلوكهم الوطني). كل ذلك من اجل إيجاد تكتل سياسي وازن وقوة عسكرية فاعلة لموازنة القوى السياسية والعسكرية الموالية لإيران، وللإمساك بالبلد وفرض الأمن في ربوعه، وتوفير حدٍ أدنى من الإستقرار تُعجّل جميعها في إنسحاب قوات الإحتلال الأميركي.
السيناريو الثالث يقوم على أساس إجراء مفاوضات مع إيران وسوريا من أجل التوصل إلى تسوية متكاملة تشمل الملفين النووي الإيراني والسياسي الفلسطيني بالإضافة إلى تسوية الوضع العراقي الداخلي. وفي ضوء تقدم المفاوضات والنتائج المتوخاة منها، يجري إعتماد أحد السيناريوهين الأول أو الثاني، أو تطوير السيناريو المعتمد بالإتجاه الذي يخدم مصالح أطراف التسوية المطلوبة جميعاً.
بات واضحاً ان إدارة بوش مضطرة إلى تغيير إستراتيجيتها الراهنة بعد ثبوت فشلها بدليل قيام الكونغرس بتأليف لجنة لمراجعتها ووضع التوصيات اللازمة للخروج من المأزق. اللجنة يرأسها وزير الخارجية السابق جيمس بيكر الذي سرّب فحوى تقرير لجنته الذي سيعلن بعد الفراغ من الانتخابات النصفية في مطلع تشرين الثاني / نوفمبر المقبل. يتضح من التسريب أمران: الأول، أن تغيير سياسة إدارة بوش أصبح حتميا. الثاني ان التفاوض مع إيران وسوريا أصبح ضروريا.
تبقى ملاحظتان يقتضي التوقف عندهما. الأولى تتعلق بإحتمال خطير هو ان يجيز جورج بوش إغتيال صدام حسين في خلال تنفيذ السيناريو الأول أو الثاني وذلك تحت الإنطباع أو الإعتقاد بأن من شأن ذلك إحداث نوع من التوازن بين الجيش العراقي المستقوي بإنضمام عناصر قيادية قوميـة فاعلة من السنّة والشيعة إلى صفوفه، والأحزاب والمنظمات الموالية لإيران. ستبدو عملية تحرير صدام من الأسر بواسطة ضباط وقوات من الجيش أمــراً " منطقيا ". لكن تصفيته في أثناء العملية أو بعدها بدعوى حصول " خطأ " ما مرده إلى قوات أميركية أو إلى قوات عراقية معادية له قد يفسد السيناريو برمته ويزجّ البلد في جولة عنف وإضطرابات واسعة.
الملاحظة الثانية، ان أيّ سيناريو لا ينطوي، في نهاية المطاف، على قيام جيش عراقي متماسك من ضباط وصفوف ضباط من أهل الشيعة والسنّة ومن بقية مكوّنات الشعب العراقي، تجمعهم العقيدة القومية والإستقلال السياسي والمسلكي عن كلٍ من أميركا وإيران، يؤدي الى جعْل خلاص العراق بتحريره من الإحتلال وتوطيد الوحدة الوطنية والإستقرار أمراً بالغ الصعوبة وطويل الأمد.
الجيش العراقي، تاريخياً، هو مصهر الشباب الوطني، ولحمة هياكل الدولة وعمودها الفقري، وحامي الوحدة الوطنية، وموطّد الأمن والإستقرار، وضامن السيادة. هكذا كان دائما في كل العهود. ببنائه، كجيش للعراق كله وليس لمكوّناته الطائفية والاثنية، وبتفعيل دوره التوحيدي والإستقلالي يتقوّى عامل التوحيد الآخر وربما الأكثر أهمية وهو النفط، بشبكة أنابيبه وأجهزته الواسعة الإنتشار ذات الفعالية التوحيدية، وبعائداته الوفيرة ودورها الإستراتيجي في عمليتي النهوض والإنماء.
غني عن البيان ان مهمة بناء الجيش وتفعيل دوره الوطني والتوحيدي والأمني الإستقلالي هو همّ العراقيين ومطلبهم ومصلحتهم بالدرجة الأولى. فللآخرين مصالحهم ومطامعهم، وهم بالتالي غير معنيين بأن يعود العراق المعاصر، كما كان قبل الحرب، هِبَة النفط والجيش معا.