ما لها : هذا القرن، قرن تتكلم فيه الصورة قبل أن يهز مسمعك الصوت، قرن يملأ أفقه الرحب مئات الإرسالات لما هبّ ودبّ من القنوات، باختلاف رؤاها ومنهجياتها وأهدافها، وكمواكبة للتغيرات السريعة انبثقت قناة (طيور الجنة) من بين هذا الزخم، تلك القنبلة التي فاجأت الكثيرين بما تحمله من قيم ومفاهيم إسلامية راقية، بأسلوب جذاب وحلل بهية، استطاعت أن تجذب الملايين من الأطفال في أصقاع الأرض، وهذا ليس بالأمر الهيّن في وسط هذا الزخم الإعلامي الكبير من القنوات التي يصعب منافستها، وإن هذا الإقبال الجماهيري الكبير على القناة ليطمئننا ويعزينا بأن الفطرة الإنسانية ما زالت سليمة رغم هذا الران الذي صنعته الحضارة الغربية المزعومة على القلوب، فالفطرة الإنسانية تنتظر ما تميل إليه وترتاح له وتأنس به. ظهرت قناة ( طيور الجنة ) كقناة أولى للطفل، فقد انتشر خبرها بسرعة بين الناس، حتى أصبح الذي لا يملك القناة في رائيه كالذي لا يملك رائيًا في عصرنا بتاتًا! ولا نبالغ إن قلنا إنها سبقت بقية القنوات الخاصة بالأطفال، وتكاد تحذفها من خيال الأطفال إن بذلت من الجهد أكثر، واستشارت ذوي خبرات، وتعاملت مع إعلاميين ومثقفين لهم باع كبير في مجال الطفل. لأنه لا بد أن نحقق الهدف المرجو من هذه القناة الذي يتمثل في تشكيل عقلية الطفل العربي المسلم وفق الأسس والمبادئ التي أرساها ديننا الحنيف، بعدما عاش هذا الطفل ردحاً من الزمن في مستنقع التخلف، وفي مغامرات (توم وجيري) وفي (كابتن ماجد) الذي أكل الزمن عليه وشرب، وفي قصة (ساندريلا) التي ذبحتنا، فما تفتأ شركة تنتج المسلسل حتى تنتج الأخرى مسلسلاً بنفس السيناريو مع اختلاف الصور، وغير هذا مما حفظناه عن ظهر غيب وما زادنا إلا خبالاً.
ومن مظاهر انتشار قناة (طيور الجنة) كذلك أن أخذ كلٌّ يعطي ترددها لمن لا يعرفه، وأصبحت أناشيدها محفوظة من الصغير والكبير، وكثيرة الترداد في الحفلات والإذاعات المدرسية والحصص الدراسية، ولا نبالغ إن قلنا في الشارع أيضًا، حتى إنها استولت على مساحة كبيرة من الوقت الذي يقضيه الطفل على الرّائي، واحتل أبطالها مكانًا في ملفات طلبة المدارس، ومكانًا آخر على أوراق العمل، وكنت مما شهدت عليه طباعة إحدى الطالبات صور الطفلة (أمل قطامي) وتوزيعها على طالبات الفصل، فأي تأثر وتأثير هذا الذي أحدثته قناة (طيور الجنة)؟
فالقائمون على قناة طيور الجنة استطاعوا بذكائهم معرفة ما يستهوي الطفل، وكيفية إسقاط تلك المواضيع في قالب من اللحن والمغزى المناسب المفهوم القادر على الجذب.
ما عليها :
ما عليها يخص الكلمة، فلي وقفة معها، فالكلمة كانت دوماً ـ إلا ما ندر ـ باللهجة العاميّة، فصحيح أنها جذبت البعض، لكنها في المقابل نفّرت البعض، فالأناشيد التي باللغة الفصحى التي عرضتها القناة قليلة جداً، وهي: حياتي كلها لله، كن جميلاً، نوّر دربي، يا جزائر، وتلك التي تظهر فيها البنات يؤدين بعض الحركات في أماكن خارجية مختلفة ـ وهي الأقل جذبًا!ـ أضف إلى ذلك القليل جدًّا من أناشيد العيد الكثيرة، وما تعدّ هذه النسبة من الكم الكبير الذي تعرضه القناة؟!
وما طُرح من أناشيد بلهجة عامية كان دائمًا باللهجة العامية الشامية، ورغم وجود العديد من المتابعين الراضين بذلك، سواءً في الخليج أو المغرب أو في غيرهما، إلا أننا لا ننكر أنها أقصت البعض الآخر عن متابعتها كذلك! فمنذ فترة حكت لي زميلة إماراتية أن إحدى قريباتها منعت أولادها من مشاهدة القناة حتى لا يعتاد لسانهم على اللون الشامي!
وإنه ليس من حقي ـ أيًّا كان موقعي ـ أن أجبر هذا أو ذاك على أخذ ما أمليه عليه، لكن من حقه علي أن أقدم ما يرضيه ما دام لا يغضب الله عز وجل، فأي اللغتين أحق أن ننشد بها: اللهجة العاميّة بتعدد مشاربها أم اللغة العربية الفصحى التي جُعلت من أواخر النقاط المحسوبة في القناة ؟
ربما يقول قائل: قد لا يستوعب الطفل الأنشودة إن كانت بالفصحى أو قد لا يفهم مغزاها تمامًا؟!!
فأقول: قد تصعب الأنشودة باللغة الفصحى على الطفل، ولكن هناك أناشيد كثيرة تقبّلها الأطفال وفهموها وكانت باللغة الفصحى، وذلك بسبب سهولة الكلمات فيها، مثل أناشيد ألبوم (الطفل والبحر) وغيره، فهذه الأناشيد لاقت قبولاً كبير من الأطفال، ولم يشتكِ منها أحد. فنستطيع حل مشكلة فهم الأطفال للأناشيد من خلال تسهيل كلمات الأنشودة، وليس الانتقال إلى اللهجة العامية. إذاً فمطلوب من الشعراء الذين يكتبون إلى الأطفال أن يأتوا بكلمات سهلة الفهم على الأطفال.
وأنا أضرب مثالاً لتقبّل الأطفال للأنشودة الفصيحة، وهي أنشودة (يا طيبة) التي انتشرت كانتشار النار في الهشيم، ومع ذلك لم يعترض أحد على كلماتها الفصيحة، مع أن بعض كلماتها كانت صعبة الفهم على الأطفال، ولكن المعنى العام للأنشودة فُهم وعاش الأطفال في أجواء حب النبي صلى الله عليه وسلم ومدينته المنورة.
ولنا أسوة حسنة في أفلام الكرتون التي هي باللغة الفصحى، ومع ذلك لم يشتكِ أحد من الأطفال من ذلك، وهل يا ترى لم تكتشف قنوات الرسوم الكرتونية هذه الملاحظة التي اكتشفها هذا القائل المتحذلق لتتداركها؟ فهل يُعقل أن يفهم الأطفال الرسوم الكرتونية ذات اللغة الفصيحة ويستعصي ذهنهم عن فهم الأناشيد الفصيحة؟ إنه لعذر أقبح من ذنب كما يقولون! وما أدرانا أن تكون اللهجات العامية في المستقبل تفتح الباب واسعاً لإدخال الكلمات الأجنبية ضمن اللهجات العامية، وهذا ما يحدث في أحاديثنا اليومية حيث أدخلنا كلمات (أوكي، نو بروبلم، آيام سوري، إكسيوزمي) وغيرها..
أشير إشارة أخرى إلى تركيز القناة على الأناشيد، وهذا ليس بالغريب، فالقناة ولدت من رحم مؤسسة مهتمة بالأناشيد، لكن مع الانتشار السريع والتنوع الكبير فيما تعرضه القناة، فهي بحاجة إلى التنوع في البرامج، فتعرض بعض الأفلام والمسلسلات الخاصة بالأطفال، وهذا يدعو إدارة القناة إلى التعاون مع مؤسستي (آلاء) و(سنا) للإنتاج الفني لإنتاج أفلام ومسلسلات كرتونية؟ ومن المعلوم أن يدًا واحدة لا تصفّق، وأتمنى ألا يكون مفهوم المنافسة طاغيًا بين هذه الشركات على مفهوم التكاتف والتعاون ووحدة الهدف والآمال، فالمنافسة المرجوّة منافسة إبداعية ليس أكثر، فمطلوب من مؤسساتنا الفنية اليوم الوعي والسعي إلى التآلف والتكاتف لإنتاج ما يتطلبه العصر برؤية واعية وبمنهجية إسلامية راسخة وحكيمة.
نصيحة :
أما عن إنتاجات طيور الجنة من أدوات مدرسية وغيرها، فحبذا لو حرصت القناة على تضمين حكم أو أمثال أو أي شيء مفيد يراه القائمون عليها مناسبًا، فمثلاً: توضع بطاقات صغيرة للطفل داخل أكياس المواد الغذائية يُكتب عليها عبارات قيمة ومفيدة لتستثمرها عقلية الطفل في حياته اليومية، بحيث تكون عبارات جميلة وسلسلة ليحبها الطفل ويحفظها في مخيلته، والأمر ذاته بالنسبة للوازم المدرسية، ولا يُكتفى بوضع صور عصومي ووليد مثلاً.