أتتني في سكون الليل أطيافٌ لماضينا وراحت تنثر الأشواق والذكرى أفانينا
أمَا كـنا في جـوف الليل رهـبانًا مصلِّينـا وفرسـانًا إذا ما قد دعا للمـوت داعينا
انتهى عصر القتال بالسيوف وأصبح القتال بالعقول، لقد استبدل الله بالسيوف والبنادق والبارود والدبابات سلاحَ العلم، وأصبح الفارس الحقيقي هو من يهب نفسه للعلم في خدمة بلاده، أصبح الفارس الحقيقي هو من يسعى لتحقيق النهضة، أصبحت التكنولوجيا هي المحرك الرئيس للحروب وللاقتصاد؛ ولذلك تجد كل الدول تقف في وجه إيران حتى لا تنتج طاقة نووية سلمية لتدخل بها حقبة القرن الواحد والعشرين في مجال التصنيع والبحث العلمي، لماذا؟ لأننا مسلمون، ويجب ألاَّ نمتلك التكنولوجيا حتى لا نقود العالم كما قدناه آلاف السنين! ولذلك قاموا بتغييب عقول شباب المسلمين- وأنا أركز على كلمة شباب - بكل أنواع المغريات؛ بداية من المواقع الإباحية، والموضة، والفن الهابط، والبحث عن عمل في ظل فساد إداري مُستشرٍ في كل شيء حتى في البيوت، وإعلام غائب ومغيب، هل تعلمون أن إسرائيل كانت تنوى اغتيال عبد الحليم حافظ بعد أغنية القدس؟! (في بعض الأحيان يكون الفن هادفًا) لأنها تعلم أن الفن له سلاحان، واحد بناء والآخر هدَّام، وكنا كعرب إبان هذه الفترة متحدين على كلمة رجل واحد، وحاربنا سويًّا كعرب ومسلمين، فما حدث بعد ذلك؟
أغرقنا بإعلام هابط، وفن مبتذل، وبطالة، ومخدرات، ودعارة، وموضة، وتقاليد غربية، تغييب كامل ومتعمد من قبل يهود وهبوا أنفسهم لوأد الإسلام منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، مرورًا باغتيال عمر وعثمان وعليٍّ رضي الله عنهم جميعًا، وحتى الآن، خطة مدروسة ومتقنة.
وأنا أحييهم والله!
أتعرفون لماذا؟ على إتقانهم في تنفيذ الخطة واتحادهم عليها ورسم أهداف والسعي في تحقيقها، ولكني في الوقت نفسه أعزيهم، وأقول لهم: إن كنتم نجحتم في تغييب أجيالنا، فاعلموا أن هناك أجيالاً الآن تعي وتفهم، لو قطعتموها إربًا فلن تتوانى عن نصرة الإسلام وإعلاء كلمة الحق ومحاربة الابتذال، ولسوف تفعل هذه الأجيال بكم مالا تتخيلوه، وليس بالآلة الحربية حتى لا تأخذوها ذريعة لتقاتلوهم وتهدموا البنية التحتية لبلادنا كما فعلتم بلبنان وغزة، سنواجهكم بأسلوب جديد وغريب عليكم، سنقاتلكم بالعلم والإيمان، أسلوب جديد يلائم العصر، معادلة بسيطة لو أن فقط - وأقول كلمة فقط - بعض الشباب التابعين لإحدى الجمعيات الأهلية أو غيرها وهبوا أنفسهم هم وأزواجهم لله، وضحوا بنعيم الدنيا، ووهبوا أنفسهم لإصلاح أنفسهم والإتقان في عملهم ونهضة بلادهم وتنمية المجتمع والبحث العلمي، لو حدث هذا فلسوف يتغير الحال.
ليس بالضرورة أن نبني المدينة الفاضلة على أرض الواقع؛ لأننا لو لم نستطع أن نبنيها على أرض الواقع فلنبنِها في بيوتنا وبين أهلنا وأصدقائنا وفي أنفسنا، ماذا لو اجتمعت أنا وزوجتي وأزواج آخرون في يوم ما ووضعنا فيه هدفًا لنا جميعًا، وعاهدنا الله أمام أنفسنا وبعضنا البعض على أننا سنربي أولادنا على التنمية والإيمان وحب الإسلام ونهضة البلاد، وأن نجعل من أولادنا ومن أنفسنا أيضًا علماء في مختلف المجالات في الطب والهندسة والكيمياء والرياضيات والمحاسبة والرياضة البدنية والإدارة والقانون وحقوق الإنسان؟
أترون، أليست هذه مدينة فاضلة تستطيعون أن تبنوها داخل أنفسكم وفي بيوتكم؟ علم وإيمان، بكاء من خشية الله، وعين ساهرة لتنهل من العلم نهلاً، وتطبقه وتتقن في عملها، ما رأيكم إن استطعنا أن نبني مدينة فاضلة كالتي نادى وحلم بها أفلاطون؟ وأن ننشئ فيها مركزًا كبيرًا للبحث العلمي والاختراعات، ونجند كل العقول المسلمة المبتكرة العالمة بشرط أن نوفر لهم ما يحتاجونه من إمكانيات، ونوفر لهم كل شيء حتى لو كان طبيبًا نفسيًّا لكل واحد فيهم حتى يتفرغوا لأبحاثهم وابتكاراتهم، ماذا لو استطعنا أن ننتج أول عقار طبي يعالج تمامًا مرضى السرطان؟ أو أول عقار طبي يداوي مرضى نقص المناعة؟ ماذا لو استطعنا في مصانع تلك المدينة أن ننتج أول سيارة عربية الصنع أنتجت وصنعت بأيدي عمال عرب بسطاء وبعقول جبارة مخترعة كانت تنتظر من يمد إليها اليد بدلاً من أن تلجأ لدول أخرى لترعى موهبتها؟
أذكر يومًا أني كنت أشاهد برنامجًا مصريًّا يستضيف أحد المخترعين المصريين استطاع ببحث فريد وتجارب عديدة أن يخترع نظامًا يمنع انقلاب المركبة أو اهتزازها لو انفجر إطارها الأمامي، مرت ثماني سنوات إلى الآن ولم أسمع شيئًا عن هذا الرجل، دُفن اختراعه تحت التراب، فتجده إما أن يكون قد يئس واتجه للمخدرات حتى يغيب عقله عما حدث له، أو أنه ارتمى في أحضان الغرب كي يظهر اختراعه للنور، وأنا حقيقة لا ألومه؛ فالإبداع يلح على صاحبه دائمًا ولا ذنب له، هو يريد فقط أن يظهر اختراعه للنور.
سنفعل نحن هذا في مدينتنا الفاضلة، سنهتم بالبحث العلمي وننتج ونصنع، تخيلوا معي لو أنتجت أول شريحة إلكترونية عربية، أو أول نظام تشغيل عربي مثل الويندوز، أو أول كمبيوتر عربي من مكونات عربية صنعته عقول وأيادٍ عربية ينافس في الأسواق العالمية حيث استخدمت في صنعه أصغر شريحة إلكترونية في العالم لإنتاج أحدث وأذكى جهاز كمبيوتر بنظام تشغيل متعدد إمكانيات عربي الصنع بخامات عربية من قلب أرضنا الطيبة؟ ماذا لو صدرنا شبابنا للخارج لهدف واحد فقط، هو إحضار العلم من الغرب كما جاءوا هم إلى بلادنا من مئات السنين ليأخذوا علومنا ويحدثوها؟ أيام الرازي وابن سينا والفارابي وابن الهيثم و...، أما نحن فوقفنا عندها بعدما ضيعنا ديننا وغرتنا الدنيا بزينتها، وهم قد تقدموا ولم يكتفوا بأخذ العلم منا وتطويره بل أخذوا تعاليم الدين الحنيف وطبقوه في كل مجالات الحياة من صدق وأمانة وإتقان في العمل وحفظ للوعود ...، وتحكموا فينا وفي كل شيء بعدما أصبحنا في ذيول الأمم.
ما رأيكم لو أعدنا الكرة وصدَّرنا من مدينتنا الفاضلة شبابنا ليحضروا العلم لنا ونبدأ من حيث توقفوا هم ونطور ونهتم ونصنع وننتج ونزرع بالإيمان؛ بالعلم والإيمان؟ إنه مفتاح اللغز، لغز الحياة.
ستقولون لي: إنك متفائل أكثر من اللازم، سأقول لكم: وإذا كنتُ؟ فماذا سيحدث؟ ألم يأمرنا ديننا بالتفاؤل؟!
وكما سمعت في إحدى الأغاني "لو بطلنا نحلم نموت، لو عاندنا نقدر نفوت، حبة حب حبة حماس تبقى الصورة صورة وصوت"،والله إنها كلمات سحرية.
الحلم أولاً قبل أي شيء، ثم العناد والإرادة، مع وجود الحب والأخوة الصادقة، وبعض الحماس فيتحقق الحلم، فأي شيء يبدأ بحلم. ولن تموت الأحلام ما دمنا مسلمين؛ لأن من أسماء الله الحسنى القادر القوي المجيب المعز المذل المقتدر، ألم يحلم الرسول بنشر الإسلام وأن يعم الإسلام الكون كله؟ ألم يحلم بفتح مكة وقرَن القول والحلم بالعمل الدءوب والسعي المتواصل؟ ألم يحلم المسلمون بفتح الأندلس؟ ألم يحلم المصريون بعبور قناة السويس في وقت كان فيه من المستحيل نسبيًّا وحتميًّا فعل ذلك نظرًا لقوة خط بارليف وأسطورة الجيش الذي لا يُقهَر؟ ألم يحلم الألمان والفرنسيون- ومثلهم اليابانيون- ببناء بلادهم بعدما جعلت الحرب من بلادهم أنقاضًا؟
ستون مليونًا من البشر قتلوا في الحرب العالمية الثانية، ودُمرت فرنسا وألمانيا وكثيرٌ من مدن الاتحاد السوفيتي.
ألم تكن تلك أحلام مستحيلة التحقيق؟
ولكنه الحلم الذي يميز الإنسان عن غيره من مخلوقات الله، علينا أن نحلم كما نشاء، نحلم بأي شيء، فما نحلم به اليوم، غدًا سوف يصير حقيقة واقعة لا تقبل النقاش، نحن اليوم في زمن الأحلام حتى يأتي أولادنا فلذات أكبادنا ويحققون الحلم، وأبتهل إلى الله تعالى أن يبقيني حتى ذلك اليوم حتى أرى بلادنا تقود العالم وتحكم بالحق، وما ذلك على الله بعزيز، ألم تروا العدد الهائل من الآيات القرآنية التي تخبرنا عن قدرة الله وإجابته للدعاء، ألم تروا دعاء زكريا ﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا 3 قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا 4﴾ فاستجاب الله له ورزقه بيحيى مصدقًا لما بعده، ولم يجعل له من قبل سميًّا، وكلما دخل زكريا المحراب على مريم وجد عندها رزقًا يقول لها: أنى لك هذا؟ فتجيبه هو من عند الله، هو على الله هين، إن أيَّ شيء على الله هين، ولكن احلم كما تشاء، واطلب من الله كما تشاء دنيا أو دين فسيستجيب لك، واصدق النية، واجعلها لخالقها، وانزع رداء الدنيا عن كتفيك، واستعن بالله، وتوكل عليه، وثِق في قدرته، وقل: لا حول ولا قوة إلا بالله وأنت مقتنع أنك بدونه لا تساوي شيئًا، واجعل من نفسك ترابًا يمشي على تراب، ادعُ الله، وقل: (ربى استخدمني، استعملني، اجعلني سببًا في نصرة الإسلام، أشهدك ربي أني أريد نصرة دينك فأعني وافتح علي وخذ بيدي وارزقني من يساعدني على نصرة دينك) ثم سمِّ ما شئتَ من الأمور، واطلب منه سبحانه أي شيء، ولا تقل كلمة (مستحيل) لأن الله هو من خلق هذه الكلمة.
فإن فعلتَ ذلك فاعلم أنك ستعبر وادي الذئاب، فاعبر ولا تخف، ولا تتخيل أن الدنيا ستصبح وردية وتفتح لك أحضانها، لا - أخي الكريم- بل اعلم أنك بدأت الاستغناء والاستعناء، بدأت الرحلة فاصبر، واعلم أن قلبك لن يضعف مادامت هناك قلوبٌ حولك تفعل ما تفعل أنت وتهوى ما تهوى أنت، ولا تنسَ - أخي - فعند مرورك من بين أنياب الذئاب ستجد أخوة لك يمدون لك أيديهم، ولو لم ترهم فابحث عنهم، واحملهم فوق كتفيك واعبر بهم؛ لأنك في آخر الطريق ستحتاج إلى من يحملك فوق كتفيه لتكمل الرحلة وتصل لبر الأمان.
وإذا وجدتني أعوى بين الذئاب أو أقاتلهم فبالله عليك خذني معك، لا تتركني لأني ضعيف، وبك – أخي – سأقوى، وسنعبر سويًّا، وعندما تنجح ستشعر بالأمان، فإذا تلفتَّ وراءك لوادي الذئاب فلن تجده، سيصبح سرابًا وضبابًا، وإذا ما نظرت أمامك فستجد زرعًا ووردًا وزهورًا، وريحانة تتلألأ، وقمرًا منيرًا، وأصدقاء كانوا بمقاييس الدنيا نكرة مجانين، أما الآن فهم رفقاء النبيين والصديقين.