ما يميز الجاهلية التي حذر منها الإسلام، هو الآلهة التي اخترعها البشر وصنعوها بأيديهم ثم أضفوا عليها هالة القداسة والتعظيم، ثم ما لبثوا أن جعلوها واسطة بينهم وبين الإله الحقيقي، ولم يستطيعوا الانفصال عنها أو التخلي عنها، رغم اعترافهم بأنها لا تنفع ولا تضر، ولا تملك لنفسها حيلة كما لا تستطيع دفع شر عنها، لكن الحقيقة الصنمية لا تتجسد في الحجر أو حوادث الطبيعة، بقدر تجسدها داخل النفس التي يقبع في أعماقها الأفكار التي تعد اللبنة الأولى لصناعة الأصنام. لذلك، يصح لنا القول بأن تجليلات الحالة الصنمية تختلف في التجسد الخارجي مع ثباتها في المصدر الداخلي، ومعنى هذا أن أشكال الأصنام تختلف من عصر إلى عصر، ومن زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان. فقد يكون الصنم في عصر ما حجرًا وفي نفس الزمن مع اختلاف المكان قد يكون ظاهرة طبيعية كجبل، أو كوكب، أو... وقد يكون في عصر ما إنسانًا، أو فكرة، أو أداة، أو...
والحالة الصنمية البشرية في الداخل حالة تستند في منشئها إلى حاجة فطرية في الإنسان هي الحاجة إلى الدين، فالدين هو حاجة يخلق لدى إشباعها شعورًا بالأمن والاستقرار، وعند عدم إيجاد الإنسان لطريق إشباع حاجة الدين، فإنه يسارع لخلق دين يوافق في مساراته وفي محدداته صفات البيئة التي نشأ فيها. لذلك ترى في الأديان المحلية القديمة نشاطات وطقوسًا تتوافق مع طبيعة البيئة التي نشأت فيها، ففي المناطق الجبلية الشاهقة تشاهد طقوسًا تعظم آلهة الجبل وتطلب منها الحماية، وفي مناطق الغابات تشاهد طقوس ما قبل اصطياد الحيوانات. وبعد عصر الشرائع السماوية حاول المتضررون من الدين، وخاصة الإسلامي، العودة بالإنسانية إلى الحالة الصنمية عبر اختلاق قداسات يضفونها على بعض المظاهر الحياتية تحت مسميات أو صفات، وبدأت الماكينات الإعلامية العابرة للقارات بإكمال ما بدأته الحالات النفسية المغرضة عبر صياغة الحالة الصنمية الهلامية في شكل قوالب تصب فيها الوعي الجمعي، وتشكيل سلوكياته المتحورة حول التقديس، ومحاولات المحافظة على الوضع القائم عبر تغذية المجتمع بأدبيات الثقافة الصنمية، ومن طرف آخر محاولة تشويه من يخرج عن هذا الإطار، واستعمال أدوات المجتمع للنيل منه بتهم شتى، ومحاولات إسقاط التاريخ وأحداثه على الفكر الخارج عن هذا القالب. ولا تتأخر أدوات الإعلام في صب الوعي في قوالب التصنيم عبر تلميع صور الصنم، الذي قد يكون فردًا أو فكرة، أو شيئًا، أو منتجًا... لتساهم بقصد أو بغير قصد بسَوق الناس إلى زمن الجاهلية الأولى. ومع غياب الوعي أثناء متابعة ما يبث على شاشات التلفزة، تبقى الفرص كبيرة لنشوء البيئة الحاضنة لنشوء الأصنام التي ستتولى في مرحلة لاحقة برمجة الإعلام حسب ما تريده، وبهذا يبقى الإعلام مع التجليات الصنمية في حالة جدلية، متبادلين الأدوار، تحت ستار من البراءة، ومحاولة الظهور بمظاهر الإنسانية، والانعتاق من الأيديولوجيات العبودية للمخلوق في أي حال كان هذا المخلوق الذي يشوه من صورة المجتمع، ويعرقل من سيره الطبيعي والتطوري، ويضعه رهن الرغبة الصنمية التي لا تفتأ تحاول إخضاع المخلوقات والأشياء لسلطانها عبر ما اخترعته وأنتجته من أدوات تجذب الناس الذين أصبحوا في مقام الفَراش المتهافت على النار الذي سيحرقه في النهاية لا محالة.