من حكمة الله تعالى أن فرض الصيام على المؤمنين في ظرف زماني هو شهر رمضان، على امتداد الجغرافيا الدنيوية، ويبقى قدوم رمضان حدثًا تستعد له الملايين من المؤمنين ماديًا ومعنويًا، وتشبه هذه الاستعدادات نوعًا من الاحتفال بقدوم عزيز على القلوب، لما أضفاه نزول القرآن فيه من معاني تستدعي كثيرًا من القدسية لهذا الشهر، فرمزية النزول فيه، جعلت منه شهرًا يفضي فيه الإنسان إلى ربه، منقطعًا عن ملاذت الجسد محولاً ذلك التعب إلى جزء من تنسكه وترويضًا لنفسه.
بقدوم رمضان لا يبقى للنفس موسوس بالشر لما ورد في الحديث من أن الشياطين تصفد في الشهر في إشارة إلى أنها تبتعد عن طريق المؤمن، وتخلي بينه وبين طريق التوبة والعبادة، أي وساوس الشيطان تنقطع عنا، وفي هذا التصفيد وبعد الشيطان عنا، فرصة لمعرفة مدى صلاح ذواتنا من فسادها، فرصة لمعرفة مقدار أثر وساوس الشيطان علينا، ومعرفة مقدار إغواءات النفس الأمارة بالسوء وأي واحد منهما هو صاحب التأثير الأكبر علينا، فإذا بقيت النفس في إطار المعاصي في شهر رمضان، فهذا يعني أن إغواءاتها قد أصبحت أكبر من وساوس الشيطان، وفي معرفة قدر إغواءاتها والمدى الذي وصلت إليه، فرصة ذهبية لإصلاحها وإعادتها إلى حالتها التي خلقت عليها من الفطرة الأصلية والخضوع الكامل لله تعالى، ومعرفة المداخل التي يدخل الشيطان بها على النفس، وفي حال القات المؤمن إلى التعبد، فإنه يعد رسالة إيجابية بأن نفسه تستطيع التغلب على وساوس الشيطان خارج رمضان بالمختصر، رمضان فرصة للتعرف على النقاط السلبية فينا، وكيفية إصلاحها، وبمعرفة النقاط السلبية نكون قد أسسنا للإيجابية في الذات عبر خلق أدوات محاربة السلبية، ومعرفة الخير الكامن الفطري في النفس الإنسانية والاستعانة به للقضاء على رواسب الشيطان وتهذيب نوازع الشر الموجودة في دواخلنا.
في نص آية فرض الصيام جاء تعليل الله كرسالة تحفيز وتشويق لنا "لعلكم تتقون" وفي مضامين هذا التشويق نجد أن التقوى هي درجة عليا يصل المؤمن إليها، تحقق له ما يصبو إليه من سعادة وأمن داخلي وخارجي، ذلك أن مصطلح التقوى هو طريق التقاء الفطرة الإلهية – التي خلقنا عليها – بالسلوك البشري المنتج من قبلنا، أي أن التقوى هي نقطة التصالح التي تحقق لنا فرصة للعيش بالأمان، وتحقيق وصف العبودية فينا على الوجه الأكمل.
في الصيام يكون الصائم معرضًا لجميع أنواع الضغوط، وهذه فرصة له ليرى مدى قوة تحمله وتحليه بالأناءة – التي هي طبع الحكماء – التي تسهل له التحكم بانفعالاته وردات فعله، وهذه الحالات قد لا تتاح له خارج الصيام، لذلك يصح لنا القول بأن رمضان فرصة لدخول النفس مرحلة صقل لذكائها العاطفي والتحكم بردات فعلها، ورفع درجات التحمل والصبر إلى مستويات عليا، مما يخلق لدى الشخص حالة أمان اجتماعي مع محيطه.
الصيام هدية إلهية، تستوجب منا حسن استثمارها حتى تعود علينا بأغلى المنافع.
-