أي حالة هذه تجعلني أكتب ولا أعرف ماذا سأكتب ، لم أعتد على الكتابة العفوية التي ربما سأندم كثيرا عندما أقرئها لاحقاً ، لكن عندما أكتب في مثل هذه الحالة لن أكون فارغاً بلا كتلة تملأ حيّز الشعور والتفكير والإحساس وغيرها مما أمتلكه بفعل التراكمات الزمنية متعددة الخبرات ومختلفة التجارب ، كثيرة هي الأشياء التي يمكن لنا أن نكتب عنها ، ولو بحثنا عن أحرف ضائعة في داخلنا أو كلمات ما زالت تحاول التحليق في فضاء الحياة لوجدنا في أنفسنا ما يستحق أن يُعتق في سبيل الإثراء والتجديد والتواصل الإنساني ، لذلك سأكتب ما سأكتبه وأفلت الحبال لسفن الخاطر من ميناء ظلت خدماته لفترة طويلة عاطلة عن العمل . قرأت ذات يوم عن قطعة الجليد التي قالت عن نفسها : أنا أحب .. وأنا أذوب .. وليس في الإمكان أن أحب وأوجد معا .. فإنه لابد من الإختيار بين أمرين .. وجود بلا حب " وهذا هو الشتاء القارس " أو حب بلا وجود " وهذا هو الموت في مطلع الربيع " . انتهى كلامها رحمها الله ، بالفعل فإن الإختيار صعب جداً ولكن أي وجود تقصده ؟ هل الموت المقصود هنا هو توقف الحياة ؟ لا أعتقد ذلك بل أجد أن حالة الذوبان هذه هي بداية الحياة ، التحول من قطعة جليد إلى ماء مذاب يسيلُ في مجراه الطبيعي ما هو إلا انسياب خلاب وعودة إلى الأصل في أجمل فصول السنة ، الحب هنا هو الموت الذي تبدأ بعده الحياة وهو الربيع الذي تتفكك من أشعته كل قطرة ماء حبسها الجفاف وجمّد أجزاءها ، الحب بلا وجود المقصود به أن الحب أصبح هو الوجود الحقيقي - يبدو أنني وصلت إلى منطقة من الصعب الخروج منها والفضل يعود لقطعة الجليد – لا بأس بذلك وسأكمل حتى أشبع رغبة الكتابة التي دفعتني للتعبير ، وبذلك أكون قد قطعت شريطة الإفتتاح لشهية كتابية ظلت لشهور طويلة مضربة عن الطعام والشراب .
عزيزي القارئ مهما قرأت عن الحب ومهما بحثت فلن تجد لهذه الكلمة من مستقر ، تعرضت هذه الكلمة لكثير من أعمال العنف في التفكير ، كثير من الناس جعلوها في زاوية التعقيد حتى ظن من يسمع كلمة " حب " أنها مرض نفسي لا دواء له ولا شفاء منه ، وآخرون أهانوها وسلبوها عذريتها حتى أصبحت مبتذلة ذات سمعة غير حسنة ، والبعض وجدها باب للرزق يسع الجمل وما حمل ، ولو نطقت لما خاب ظن العارفين بها وتبرأت ممن يدّعي وصلاً بها وهي التي لا تقر لهم بذاكا ، الحب كالوردة التي تنبت بجذورها في تربة القلب السليم ، يتعاهد سقيها المحب ولو أرخص الشرايين لسقيها ، الحب هو الإقرار بالحياة الخالدة وهو النفخة الثانية بعد نفخة الروح التي تدبّ في أوصال الجسد لتسافر معه خارج الحدود ، هو أقرب إلى " النيرفانا " التي يعتبرها بعض الفلاسفة حالة من الإدراك والوعي لا يمكن تعريفها ولا فهمها ، حالة من الخلاص التي يمكن للروح أن تفارق الجسد وتُبعث وهي مستمرة في الوعي والإدراك لا تحمل معها إلا المعاني الخالصة التي لا تشوبها شائبة أرضيّة ، هو الحب مصفاة إلهية بها نغسل كل أدران الحياة من غل وحسد وشهوانية ، هو أجمل عاطفة يمكن للإنسان أن يشعر بها ، وعلى طريق المحبة جمع غفير اجتمعوا على الحب وتفاوتوا في مدارجه ..
روعة الحب تتجلى في تحوّل الكون إلى ابتسامات مطبوعة في كل شيء يمكن إدراكه والإحساس به ، شعور بالرضى والطمأنينة في الوجدان وعمق في التأمل ، صفاء روحي وقوة باعثة إلى الخير والجمال ، لست مثاليا ولا أتكلم عن الحصان الطائر ، إنما هو إيمان عميق بالحب وبتمثل المحبة في روح المحبين وإن كان حديثي هذا يختلف عن أنصار مذاهب العشق والغرام ، وقد قال مستر ( سانت بيف ) : " ليس بالحب إلا ما نتخيله " ، فهذا ما أتخيله حقيقة وأؤمن به ..
يبدو أنني ملزوم الآن أن أنهي سلسلة الكتابة حتى لا أدخل في متاهات كثيرة ودهاليز من الصعب الخروج منها ، وأقول في نهاية المطاف أن السعادة التي يرجوها الناس في أكناف المحبة هي سعادة الطاعة ، بها يمكن للإنسان أن يجعل من قلبه ينبض بالمحبة الصادقة والخالصة وبها يمكن للعبد أن يسقي شجرة الحب بجذورها الراسخة ( وهي محبة الله عز وجل ) لتنعم الأغصان وبقية الفروع بوهجها وبثمارها الدانية ، اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني إذا كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك بَرَد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مُضرة، ولا فتنة ضالة، اللهم زيِّنَّا بزينة الإيمان، واجعلنا هُداة مهتدين اللهم آمين .