العلماء مصابيح الدنيا كما جاء في الأثر،كما يعتبرون البَدّةَ التي بفضلها تتقوى الأمة وتتحدى صلف القوى الأخرى،فبنور علمهم تنهض الأمم وترقى وتتقدم الصفوف الأولى،وتسيطر على ناصية الحضارة والتكنولوجيا،وما ارتقت الأمم عبر التاريخ الإنساني إلا بفضل جهود علمائها وبفضل زبدة ما قدموه من علم وفكر مستنير.والحضارة الإسلامية ما بلغت الذي بلغته،وما عمرت أكثر من ثلاثة عشر قرنا من الزمان.
إلا بفضل علم علمائها،ولم تتراجع عن قيادة العالم إلا عندما انحسر العلم وتخلف العلماء عن تشكيل الواقع كما يتوجب أن يكون وفق النمطية الحضارية المطلوبة،بل إن الحضارة الإسلامية مسها الضعف والهوان عندما تقدم الجهلة إلى المقود الحضاري وكان حتما أن يقودوها إلى الهلاك ،فأضحى ما قدمته الأمة الإسلامية عبر قرون خلت قاعا بلقعا ورمادا تذروه الرياح وكأن شيئا لم يكن في يوم من الأيام اسمه حضارة ذات صبغة إسلامية صرفة.
لكن ورغم الذي حدث للحضارة الإسلامية من رجة عنيفة أسقطتها من عليائها،بيد أن الأمة نفسها لم تعقر يوما أن تلد من رحم معاناتها من استولى على نفسه وكيانه همُّ فجيعة سقوط الخلافة الإسلامية،كما أخذ على نفسه عاتق بناء ما تهدم،و إنارة الطريق بعد أن سادتها الظلمة من كل الجنبات.
ويعد المفكر الإسلامي رشدي فكار رحمه الله من أبرز علماء الإسلام في القرن العشرين الذين جالوا بأبصارهم في زوايا الفكر ونقبوا وبحثوا في الإجابة عن السؤال الذي ما تزال تجمع عليه الأمة قاطبة "لماذا تخلف المسلم فيما تقدم غيره " كما يعد من المفكرين المسلمين القلائل الذين عايشوا الحضارة الغربية وسبروا أغوارها من الداخل،وتخصصوا في فكرها وعلومها لفترة تزيد على ربع قرن من الزمان، ففهم بذلك مكمن سر تخلف المسلمين،و مكمن سر تضعضهم في جوانب عدة يقول رشدي فكار"في البداية هنالك جانب معنوي لتخلف المسلمين في هذا العصر وأعتقد أن البناء الذهني والبناء الأخلاقي غالبا ما يشكل أرضية البناء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي،ولا أعتقد كثيرا في جدية أن العامل المادي هو الذي يملي على الإنسان السلوك العملاق،،ودائما في نفس السياق يواصل رشدي فكار:" وحقيقة الأمر أن سر تخلف المسلم أنه في قطيعة مع الإسلام،،غاب عنه النص واحتفظ بمجرد العنوان غاب عنه جوهر أكمل الرسالات،وأصبح يردد الشعارات ويزعم أنه خير من يمثل الإسلام بهذه الشعائر برغم أن ممارسات حياته وسلوكه كثيرا ما تتعارض مع تعاليم الإسلام والله تعالى يقول" يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون" ولم يقل يا أيها الكافرون.فالإسلام يطلب من المسلم أن يكون واضحا حتى في خطئه،ويعلن التوبة،ويطلب المغفرة والرحمة،نوع من المحاكمة العلنية الرائعة".
ولا يقف رشدي فكار عند حدود تشخيص المرض وإنما يطرح رؤية لاستعادة البناء الحضاري، ويركز في هذا الاتجاه على مرحلة التعليم الأولى في حياة أي طفل، ويرى أنها من أخطر المراحل التي يجب أن ننتبه إليها،وعلى هذا فهو يدعو إلى تحريم إطلاع الطفل المسلم على أي انتماء آخر غير الانتماء الإسلامي حتى الثانية عشرة من عمره، كما تفعل ذلك الأمم الأخرى مع أطفالها، بعدها يبدأ الانفتاح على ثقافات العالم ،،فمنطلق رشدي فكّار في بناء القاعدة الحضارية الإسلامية يجب أن ينطلق من الاهتمام بالطفل بادئ ذي بدء،لأن الطفل بمثابة المادة الخام الأولية التي منها يكون أول البناء للجدار الإسلامي،ثم تأتي بعد ذلك إعادة صياغة شخصية المسلم المعاصر وفق المنهج الرباني القويم ،وإعداد نسق تربوى سليم غير مهلهل يؤمن له أن يتصدر في عصره ويستحوذ على وسائل العصر، فالإنسان المسلم كما يؤكد رشدي فكار يعانى هذه الأيام من سوء توظيف لقدراته وممتلكاته، وأنه يمكن أن يتخطى الوعكة الحضارية التى يمر بها الآن لو نجح في تجاوز عملية سوء التوظيف هذه.
وفي ذات السياق يحذر رشدي فكار من المغالطات التي يريد الكثيرون من الضفة الأخرى أن ينثروها في عقل المسلمين عن الحضارة الغربية التي حسبه ترتكز على قدرات ثلاث هي: الأسس العلمية،والتطبيق الصناعي،،والمعرفة التكنولوجية ، ومن هذه المغالطات أن الحضارة الغربية حضارة عصية على الالتحاق بها،وهذا في حد ذاته جزء من الفشل الذي يجب التحذير منه كما يؤكد رشدي فكار" إنه لمن الخطأ أن ينظر إلى هذه الحضارة على أنها خارقة وشاذة ومتميزة،إلى غير ذلك من النعوت التي سعى البعض إلى النفخ فيها وتضخيمها تيئيسا للآخرين حتى يخامرهم القنوط،وتضعف فيهم الهمم،فيتقبلون بقناعة سيادة الغرب التي لا تقهر،وصولجانه الذي لا تحده حدود،حضارة الغرب ليست معجزة، وإنما هي مرحلة من مراحل تاريخ الإنسانية،نعبرها اليوم للأسف في موقع المسود لا السائد،بعد أن كنا وخلال ما يقرب من ألف عام محورا رئيسيا من محاور الكون ومصدرا أساسيا من مصادر إشراق الإنسانية وإشعاعها.
رشدي فكار يرفض غلبة الحضارة الغربية ليس لكونها حضارة غير موجودة كأمر واقع،فهذا أمر مسلم به ولا أحد يستطيع أن يماري في أنها أي- الحضارة الغربية- تمثل قوة مادية وتكنولوجية لا تضاهيها قوة،لكن يرفض الشق الآخر من الغلبة كما سبق وأشرنا إليه كون هذه الحضارة تمثل المبتدأ و المنتهى في كل شيئ كما نظر لذلك فوكوياما من خلال نظريته المعروفة نهاية التاريخ، ويرى رشدي فكار أنه يمكن تجاوز تلك العملية وتخطي الوعكة الحضارية وهي ليست مستحيلة لأن لدى المسلم من المبادئ الخالدة التى تجعله متعادلاً ومتوازناً مع ذاته، خاصة تلك التى ركزت على النفس البشرية وجعلت لها الأولوية على الجسد،وظهر هذا واضحاً في حديث القرآن الكريم عنهما، فكرر (النفس) عشرات المرات بينما ذكر (الجسد) مرتين فقط من باب الأولويات ،فعلى المسلم أن يعي هذا ويعطى للنفس ما تستحق من الأهمية خاصة وأن الآخرين ركزوا على الجسد واسترخائه.
إن المشروع الحضاري الإسلامي في مجمله لدى رشدي فكار هو إعطاء الأولوية القصوى للإنسان ذاته،لأن الإنسان هو الذي يبني الحضارة وهو الذي يهدمها في نهاية المطاف،مبرهنا على أن الإسلام استطاع أن يعبر القرون معتمداً أساساً على إنسانية هذا الإنسان المؤمن.
وذهب رشدي فكار في استدلاله إلى اعتبار أن الحضارة الإسلامية انهارت عندما تركت الجانب المادي أو ما يسميه " العضل " يتغلب على الجانب الإنساني:" إن فئة من المسلمين بدلاً من أن تتسلح بقدرات الإسلام وهي : الإيمان والعقل المفكر والصبر والحق والتضامن والتآلف والقوة، بدأت تتبنى " العضل" بمعنى أنه يمكن أن يصبح الإسلام قوة عضلية ،وركزت على هذا حينما كان العضل قوياً في عصر الإمبراطوريات أو عصر الدول الإسلامية وكانت مهابة ، لكن حينما بدأ العضل يضعف انتهى الأمر، والمثال الخلافة العثمانية أخيراً مع أنها كانت من أكبر الفترات في الإسلام من حيث الامتدادات الجغرافية والقوة وبمجرد أن ضعف السيف في يد مَنْ يحمله انتهى الآمر، ولحسن الحظ لم ينتهِ الإسلام.
الثابت في منهج مفكرنا رشدي فكار أنه ينظر إلى الحضارة الإسلامية على أنها قادرة أن تتولد مرة أخرى وتعود إلى الساحة تؤدي دورها كما في السابق لا سيما على المستوى الإنساني،لأن الحضارة الغربية الحالية وإن نجحت في تذليل صعاب الحياة،بيد أنها أفلست و لم تعد تستطيع أن تسعد الإنسان الذي لا يزال يلهث وراء البحث عن مفردة" سعادة".
ونخلص إلى ما يراه رشدي فكار أن الإسلام لديه الكثير الذي يستطيع أن يقدمه للحضارة الغربية وللعالم كله؛ فيقدم له ما لا يملك من قيم إنسانية وحضارية يفتقدها الإنسان الغربي الذي أصبح في عطش دائم لهذه القيم؛ لأن الإسلام يتمتع بميزات لا وجود لها في أي دين آخر، ولذا تبقى الصياغة الإسلامية الحضارية لإغاثة عالم الحضارة الغربية الأمل الموعود والمرتقب في دنيا العصر وقلق ذوي الاهتمام والفكر. لأن العالم حسب رشدي فكار سوف يخضع بالإصرار الإلهي للمنهج الإسلامي وللصيغة الحضارية القرآنية بعد أن بدأت التباشير تلوح بالأفق المضيء، ولسوف تفنى كل هذه التعفنات التي أغرقت البشرية في طوفان الظلم والإباحية الجنسية والخلقية والسياسية المدمرة،وعندئذ تعود القيادة الرشيدة والمقود إلى أولي الأيدي والأبصار حسب التعبير القرآني الكريم.