يشكل فعل الكتابة حدثا حضاريا فريدا، ذلك أنه لم يتخذ فقط من الخط واللغة وسيطا له، بل استطاع أن يوظف وسائط أخرى أكثر تأثيرا، قدمت للإنسان أشكال أخرى من الكتابة، ووسعت من مفهومه لها. فقد بدأت الكتابة، لا كعملية مكتملة ومرة واحدة، بل كتطورات متلاحقة في مسار عمل منتظم وثوري، فقد تعرفنا منذ قرون على الأصوات كأهم مادة يمكننا أن نمارس التأثير عليها، نظرا لأن الصوت هو أهم فعل متصل بالخارج وبالتغيير، فالمولود يصرخ لأول مرة حين يولد، أما ما يحدث بعد ذلك فهو تغيرات تطرأ على الصوت نفسه. إن التعرف على الصوت، والتمييز بين طبقاته، ثم إحداث الاختلاف فيما بين هذه الطبقات، ثم وضع لكل صوت حرفا معينا، هي عمليات مفصلية في التاريخ. لقد بدأنا أولا بالتمييز بين هذه الأصوات التي نقوم بها، ولا حظنا بأن هذه الأصوات يمكننا أن ننتظمها لنكون كلمة ما، ثم جملا واضحة تؤدي اغراضا مهمة لنا. لكننا بالنسبة للجملة، نحتاج إلى شيء آخر، أكثر من مجرد إحداث اختلافات واضحة بين الأصوات لنتعرف على الشيء، إننا بحاجة إلى قواعد منطقية، لنحدد هذا الواقع ولنستطيع التعامل معه. وهكذا نشأت اللغة أولا. أما في المرحلة التالية، فقد استطاع الإنسان أن يعطي شكلا ما لهذه الحروف، من خلال اكتشافه لوسيط أخر يمكنه من إجراء تغييرات عليه، وهو خط الأفق المستقيم، والذي هو خط خيالي أكثر، بسبب تطورات حاصلة في قدرات الفكر البشري، ومن ثم توصل للأبجدية والكتابة كفعل تاريخي،. ولذا أطلق الإنسان على هذه المرحلة من تاريخه، اسم "التاريخ" وما قبله "ما قبل التاريخ".
تماما كما كان يفعل من قبل حين كان يصل إلى قدرته في التأثير على الأشياء، حين أطلق اسم العصر الحجري، أو البرونزي أو غيرها من الأسماء على المواد التي يتمكن من التأثير عليها واستعمالها. أما حين توصل إلى الكتابة كفعل، فقد اكتشف انه ولج مرحلة مغايرة تماما، وهكذا انتقل من التأثير في الأشياء إلى التأثير في المعرفة أو المعلومة التي يحصلها. لأنه استطاع لأول مرة أن يحفر الفكرة في الطين، وأن يجعلها أسيرة له. إن هذه المرحلة لم تتوقف يوما، فحين اكتشف الإنسان المنهج العلمي أطلق على ذلك عصر الأنوار، وما قبله عصر الظلمات، نظرا لمسألة مهمة أيضا، وهي أنه استطاع أن يغربل المعلومة والفكرة بواسطة منهج محكم، يستطيع به أن يعرف ما هو علمي وما هو غير ذلك، فالمعلومات المدونة، لم تكن تخضع للتحكيم، بل كانت مجرد ركام من المعلومات . أما حين اكتشف المنهج العلمي، فقد تمكن من الوصول إلى الوثوقية التامة. و بالطبع، فليس هناك أي اختلاف بين مراحل هذه العملية، فبمجرد أن اكتشف الإنسان هذه القدرة على التأثير، كان يكتشف أيضا وسيلة ما، أو حاجة أخرى تستطيع أن تقدم له هذه الميزة، وكما قلنا، فإن الانتقال إلى اللغة كان بحاجة إلى القواعد النحوية والتي هي تنظيم منطقي عقلاني. وبالنسبة للكتابة، فإن نفس الأمر حدث، وهو الحصول على مجموعة القواعد التي تمكن بها الإنسان من تحديد ما يرغب به بالضبط. أما بالنسبة للمنهج العلمي، فإن المطلوب، هو مجموعة القواعد الكبرى التي مكنته من الوصول إلى الحقيقة الموضوعية، والتي تجلت في خطوات المنهج العلمي. فهو، أي الإنسان ، كان بحجة في كل مرة إلى قواعد أكثر سموا وقدرة على تحقيق الهدف. بالنسبة للأدب: لقد ابتعدنا كثيرا عن موضوعنا وهو الكتابة، وأخذنا نفكر في العلم، وتركنا الأدب الذي هو موضوع مهم أيضا، نظرا لأن الأدب، لا يتخذ فقط تلك الخطوات المنطقية والتي تجعل منه إجراء عقيما، بل هو مضمون يقوم على قواعد أخرى أكثر تطورا. وحين نكتب عن شيء، فنحن إنما نقوم باستثمار هذا المكتشف الجليل، والذي هو الكتابة في مسألة بالغة الأهمية. إننا بالفعل، نقوم بإعطاء معنى ما للكون. إننا نحدد بدقة ما هو غير منتظم في الخارج، في ما يحيط بنا من أحداث، تغيرات، أشياء، عواطف، ونقوم باجتزائها من هذا الواقع، ونعيد تنظيمها بحسب رؤيتنا لها، و هنا تتأتى نظرة قواعدية جديدة ، أكثر تمثيلا للفكر الإنساني. أليس الأمر أشبه بالعلم وبالصناعة، حين تفصل مكونا طبيعيا عن أصله، وتقوم باستثماره، لتصنع منه منتجا مفيدا. إن الأمر هو كذلك بالنسبة للأدب، ففي الشعر مثلا، تطورت تلك القدرة الفذة على التعبير، بسبب احترامه لتلك القاعدية، فهو يعيد تنظيم اللغة في مستوى أكبر من مستوى المنطقية الحرفية للغة، بل ويقوم بوضع قواعد جديدة، متجلية في قواعد العروض والشعر، كالتفعيلة والبحور والقافية وغيرها، ما يمكنه من تعظيم التأثير اللغوي التواصلي، ولا غرابة أن يأتي ذلك من العرب، وهم من أوائل مكتشفي الكتابة. أما بالنسبة للرواية، فنحن لا نجد تلك القواعدية في الشعر، نظرا لاقترابها الشديد من التصويرية، وذلك حين تقوم باجتزاء مشاهد من الواقع، متخيلة أو واقعية، وتقوم بتصنيفها وتوظيفها لتخدم فكرة أخرى، ولذا فهي شكل جديد تماما من الكتابة، بالصورة والمشاهد. أما ما يحكمها، فهو قواعد أكثر أخرى أكثر مرونة، كالمقدمة والحبكة والعقدة والحل ، ويساعدها هذا على تقديم أفكار أكثر اتساعا وتنوعا ويمكن أن تمس البشر جميعا. المسرح والفيلم: هل هذا هو ما يحدث أيضا في الفنون الحديثة؟ لا شك في ذلك، فالإنسان، حين اكتشف قيمة وضع القواعد، توصل إلى اشياء أخرى، كالمسرح والفيلم والرسم وغيرها، وكلها تحتكم إلى نفس المنطق، فهي اجتزاء الواقع، قطعا قطعا، وتعيد تصفيفها في منظومة أخرى أعلى، وبالنسبة للشعر، حددت البحور قدرته بالتأثير وزادت منها، غير أنه يمكن أيضا أن نتخذ من وسائل أخرى مادة للتعبير، فالصورة ، هي أيضا مكتشف آخر مهم، تماما كاللغة، وحين نعيد تصنيف صور معينة، لتقول شيئا، فنحن نقوم بنفس العمل، الذي نقوم به من خلال اللغة. وهو نفس ما حدث مع المسرح، حين نقوم باختراع مشاهد متتالية تقول شيئا. وربما نلاحظ الآن، هذه القدرة على التعبير، والتي تتعاظم، كلما اكتشفنا وسيطا أكبر. إن الفيلم والمسرح، أقدر على حمل المعنى من اللغة نفسها، نظرا لأننا نستخدم وسائل أكثر في فعل القراءة، ففي الفيلم لا نستخدم فعل القراءة فحسب، بل نستخدم أيضا السمع والبصر، ولهذا أتى المسرح كأكبر فتوحات القرن التاسع عشر والقرن العشرين وما بعدهما. ثم أتى الفيلم أيضا، وفي كل مرة، يكون المسرح والفيلم أكثر قدرة على حمل المعنى والفكرة من أي عناصر أخرى. غير أن البعض يدعي بأن الفيلم والمسرح، يحرمان المتلقي من توظيف خياله، فنحن نسحب منه هذه الميزة لصالحنا، حين نكتب، أو نخرج أو نمثل، وبالتالي فهو يقوم على نضوب خيال القارئ المتلقي. وانأ أدعم هذا الفكرة فعلا، غير أنني أتساءل دائما: يا ترى من يقوم بهذه الخدمة الجليلة لصالح القارئ غير الكاتب والمخرج والفنان والمسرحي والرسام؟ وإن الأمر يتطلب قدرة اكبر من القارئ نفسه، ليفهم فكرة فيلم أو لوحة أو قطعة موسيقية، إذ أنه هنا يبذل جهدا فلسفيا أكثر مما يفعله في الرواية والقصة. لقد تطور فعل الكتابة منذ قرون، ورغم أنه ابتدأ كعامل مهم لحمل حاجاتنا المادية، من خلال اللغة والحديث الذي ارتبط كثيرا بحاجاتنا البيولوجية، فإنه تطور ليحمل حاجاتنا الاجتماعية والثقافية من خلال الكتابة، ثم الفلسفية والفكرية من خلال الفيلم والمسرح وغيرهما من أشكال الكتابة. وإن لناقد أن يقول، أيرتبط الفيلم بحاجتنا الفكرية والفلسفية حقا؟ فهو كما يبدو، لا يحمل إلا دعوات مستمرة لحاجاتنا المادية ولغرائزنا خصوصا، فالصورة لا توظف إلا لهذا الغرض. وهذا صحيح، غير أن الكتابة أيضا ارتبطت كثيرا بالرغبة والنزوة، تماما كما ارتبط الشعر بالعواطف أكثر. وإذن ، فإن الإنسان، حين يكتشف شكلا من أشكالا الكتابة، فهو يخضعه لرغباته وأهدافه، فقد يكون هدفا فكريا، أو فلسفيا، أو ماديا صرفا، فالمكتشف يستطيع أن يحتوي الرغبات الإنسانية جميعها ويكون في خدمتها، وهذا دليل إضافي على أنه متسع كثيرا، ومرن أكثر ليقدم خدمة إنسانية كبرى للإنسان. وهناك شيئا آخر أكثر أهمية، وهو أن اكتشاف كتابة جديدة، إنما يتأتى بتطور المجتمع وقدرته على الاختراع والابتكار، وإذا لم يتطور المجتمع أو الثقافة أو الحضارة، فلن تكون هناك أية أشكال جديدة للكتابة. كذلك، يمكن الرؤية للفنون جميعها على أنها أشكال مختلفة من الكتابة، تقوم على توظيف وسائط مختلفة، كالصوت، والخط والصورة، والمنطق كما هو حاصل في اللغة الالكترونية، التي لا شط ستتطور أكثرن لتقدم أشكالا أخرى من الفنون والآداب.