ما إنْ تفتح عينيك على هذه الحياة حتى تبدأ ساعة وجودك الفيزيائي على الأرض بالعمل، بل وحتى بعد تعطل مركبك المادي “الجسد”، فإن ساعة وجودك ما تزال تعمل إلى “الوقت” الذي تتوقف فيه تماما عن مسايرتك روحًا بعد أن توقفت عن مسايرتك جسدًا. مما يعني أن الشيء الثابت في كل متغيراتك في هذا الوجود هو “الزمن”، بل أن ما بعد الأرض وهو يوم القيامة يتغير الزمن ويتمدد بطريقة غريبة بخلاف ما نعهده الآن، من ناحية الوقوف في المحشر كما وردت في النصوص المقدسة في الدين الإسلامي. وللزمن طبيعة مختلفة لما بعد يوم القيامة، حيث يكون القياس مختلفًا وكبيًرا، فاليوم حينذاك يتخذ “قالبًا زمنيًا” واسعاً، “وإن يومًا عند ربك كألف سنة مما تعدون”. وهناك “الخلود” الذي لا يسري الزمن في معادلته للمؤمنين الخالدين في الجنة والكافرين في النار. فالزمن مع تغيره المستمر إلا أنه الثابت فيه هو وجوده ، وبالتالي تكون محاولة التعمق في فهمه ومعرفة ميكانيكته وآلياته لا تقل أهمية عن فهم الوجود وطبيعة الأشياء المحيطة بنا، فضلاً عن وجوده الذي لا ينفك من بدأ تكونّه في بداية الخلق إلى ما لا نهاية. ورجوعًا إلى الحياة الدنيا ومحاولة الفهم العميق للزمن، نرى أن التدبر في معرفته مهمة
لإدراك الخارطة الزمنية للإنسان، والتي يمكنه من خلالها تلافي الأخطاء ورفع الإنتاجية في حياته و تطوير وتحسين مخرجاته، والعيش بانسيابية مع المتغيرات مهما كانت، والبقاء بأفضل الحالات على المستوى الفردي والاجتماعي.
من قال أن الزمن يسير في خط مستقيم؟ نعرف أن الزمن لا يعود للوراء -خط مستقيم-، ومع ذلك فالتاريخ “الزمن” يعيد نفسه- دائري-! فما مسار الزمن إذًا؟ خط مستقيم أم دائري هو الاثنان معًا، يجتمعان ليكونا نفقًا ملتويًا، فيه التعرج والإنحناء أيضًا. وعند التأمل في هذا المفهوم نُدرك الدعوة القرآنية للتدبر في سير الأمم السابقة، ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ﴾(يوسف: من الآية111). وتأتي قصصهم بعد أن اكتملت فصولها بالتزامن مع انتهاء “وقتهم”، والدعوة إلى تدبر سير الأولين، هي بمثابة أخذ أشعة إكس X-ray، ومقارنتها بواقعنا في وقتنا الحالي، والاستفادة من التجربة بغض النظر عن الزمن المتغير. ولا يتدبر الأمر إلا من يتعمق في الزمن “ماضيه” ، ليعيش “حاضره” ويخطط ل”مستقبله”، وبالتالي فإن الزمن في هذه الحالة مرن وليس خطًا مستقيما صلبا، حيث لا يمكنك رؤية الخلف فيه. ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ﴾(النمل:69) فالنظر لعاقبة المجرمين، هي خطوة استقرائية رياضية يقدمها القرآن الكريم، وذلك بتقديم سبب الهلاك للأمم والمجتمعات والحذر من الوقوع في نفس الحفرة، وهذا يؤكد أن الزمن والتاريخ به ممرات مشابهة، وكأنك تسير في نفس المكان مرتين ولو تغيرت ملامحه. وتكرار الدعوة القرآنية لمسألة التدبر والتأمل في قصص الأقوام السابقين هو تمرين لتوسعة مدار النظر إلى الزمن من نقطة بعيدة عن مكان الحدث، فالقرآن يقدم لنا مقعدًا في موقع مميز للنظر إلي قصص الأقوام السابقة، والعجيب أن هذا المقعد ثابت لا يتغير مكانه ويعطيك المشهد بالكامل حتى لو تقدم الزمن. والمشكلة التي نقع فيها هي عيش الزمن بلحظته التي نتنفس فيها فقط، والنظر للأمور عبر نطاقها التي هي فيه وضمن مسارها الخاص لا غير، وإغفال التقاطعات الزمنية الأخرى المشاركة في أي حدث نعيشه أو ندرسه. ونتيجة لذلك التغافل تأتي نتائج قراءتنا ناقصة ونصفها غير متوقعة أو صادمة أو مُسلّم بها، دون علم بأن ما نراه هو وجه واحد من الحدث لا معظمه أو كله.
بعض المسارات الزمنية ممكن قراءتها عبر التالي:
١. حساب المؤثرات والعوامل الداخلية فيها عبر معاينة الحدث في اللحظة “على المدى القصير”
٢. الاستقراء “هو تعميم أو إصدار حكم كلٌي اعتمادًا على ملاحظة حالات جزئية”.
٣. التنبؤ “عملية تقدير مدروس على حسابات رياضية للحالة في مسارها الطبيعي، وذلك دون الأخذ بعين الاعتبار العوامل الطارئة التي قد تطرأ” والبعض الآخر غير ممكن، وهو خارج إطار القدرة البشرية في عملها أو تفسيرها، مثل: ١. المعجزة بمعرفة الغيب، أي ذكر الحدث قبل وقوعه كدليل لإثبات رسالة سماوية ٢. دي جافو DeJaVu، وهي باللغة الفرنسية معناه ما شُوهد مسبقا، ديجا فو هي الشعور الذي يشعر به الفرد بأنه رأى الموقف الحاضر من قبل بجميع تفاصيله. يلازم هذه الظاهرة شعور بالمعرفة المسبقة وشعور بـ”الرهبة” و”الغرابة”. وليس لها تفسير لمعرفة أسبابها بصورة قاطعة بعد.
وباستثناء المعجزة، فإن جميع الأدوات المذكورة يمكن استخدامها لمعرفة سير الزمن ومساقاته المختلفة والمعقدة. ويمكن النظر للزمن كنفق ماتوي تتداخل معه خطوط خارجية تتقاطع في نقاط الحدث الموزعة على طول هذا الأنبوب. انظر الشكل رقم (١) http://jaafar-hamza.com/wp/?p=402
التدقيق اللغوي: لجين قطب.