كتبنا مرة في هذا الموقع مقالة بعنوان (القيم بين المنظور الكوسمولوجي والرؤية التاريخية)، فقلنا إن القيم كما تُفهم انطلاقًا من مرجعية فكرية حديثة ليست غايات مبثوثة في نظام الطبيعة، ولا هي شرائع إلهية حرفية محددة أزلاً وباقية أبدًا، بل هي مُثلٌ عليا علينا أن نسعى إلى تحقيقها، وإنسانيتنا رهينة بهذا السعي الذي يُحرّرنا من ضائقة الانتماءات ويُقرّبنا أكثر من رحابة المواطنة العالمية. لقد قلنا يومها إن الإنسان بعد الثورة الكوبيرنيكية أضحى مدعوًا إلى التشريع بنفسه لنفسه على الأصعدة السياسية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية. القيم تقديراته هو ولا دخْل للطبيعة أو الخالق فيها. لنُنصت لكلام ثلاث شخصيات من أزمنة فكرية مختلفة بإمعان، عسى أن ندرك الفارق بينها في النظر لمسألة القيم ونقبض على التحولات التي مسّتها في الفكر الحديث.
1. حكيم من العصر القديم: كان الحكيم يُحدّث رواد حَلَقَته من عشاق الحكمة عن أمور السماء عندما جاء أحد عبيده مهرولاً وهمس في أذنه: «سيدي، إن الغوغاء قد عاثوا في المدينة فسادًا، فلا تدخُلْها حتى تهدأ الأمور ويُؤدب العصاة». قضى الحكيم بقية يومه متفكرًا مقارنًا نظام السماوات العجيب بعبث الأرض الغريب، وبهذه الكلمات ناجى نفسه: « ما أخطأت الطبيعة التدبير إذ أسْكنت الفانين قُمامة العالم مع الأجسام الثقيلة والمُسوخ، فهم لا يرعون حُرْمة لنظام العالم ونواميسه. البشر كائنات مشوهة، والخلطة التي رُكّبوا منها تقلب ترتيب الطبيعة فتجعل رؤوسهم في بطونهم وفروجهم، ومع أن أعينهم ترى الآفاق أنّى تطلعت فإنها مُنشدّة بحبال إلى أدران الأرض وغافلة عن كنوز السماء. ارفعوا أبصاركم أيها الفانون إلى الأعالي، وتأملوا البهاء والجمال والنظام. أنى وجّهتم بصركم سترون صنعة بديعة وتدبيرًا مُحْكمًا: فكل شيء في موضعه، ولا شيء يجور على مقام غيره. انظروا حولكم وستجدون حال لسان الأشياء كلها يُحدثكم عن عدالة الطبيعة وموازينها القسط وجمالها. اتّخذوها نموذجًا في تدبير نفوسكم واقتدوا بعدلها في تسيير شئون مُدُنكم كي تستقيم أحوالكم. كلما غفلتم عن ذلك اخْتلّتْ مُدنُكم وفسدت نفوسكم. أنتم في ورْطة يا ساكني القمامة، ولا نجاة لكم مما أنتم فيه من شرور إلا إن أمّرتم حكيما عليكم، إذ هو الذي أهّلته الطبيعة ليقودكم ويُحدث في مدنكم ونفوسكم نظامًا مماثلاً لنظام العالم.
2. رجل دين من العصور الوسطى بعد أن أمّ الناس في صلاة العصر اعتلى الفقيه المنبر كي يعظ الناس كعادته كل جمعة، وقبل أن يَشْرع استفتاه أحدهم وعلى مُحيّاه علامات الغضب الشديد: صارت دارنا يا إمام أشبه بدار الكفر منها بدار الإسلام. لقد ولّى الناس ظهورهم للمساجد فلم تعُدْ عامرة، وانشغلوا بمتاع الدنيا شيبة وشبابًا، نساءً ورجالاً، وخرجت النّسوة إلى الشوارع سافرات متبرجات وتَقلَّدْن المناصب وزاحمْن الرجال في كل شيء وسددن عليهم منافذ الرزق، وها هم طواغيت الأمة قد أحدثوا فيها مجالس تُزاحم الله ورسوله في التحليل والتحريم، فأسقطوا شرع الله وحملوا الناس على اتباع القوانين الوضعية تشبها بالكفار. فما نفعل ونحن نرى داعي الله لا يُستجاب وحدود الله تُنتهك؟ اعتدل الفقيه في جلسته وتنحنح مهيئًا مخارج صوته لكلام جليل، وقال: «الحمد لله رب الأرباب، مُجْري السحاب ومُنزل الكتاب. بعث رسوله بشيرًا ونذيرًا لأولي الألباب، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله والأصحاب. أما بعد، فإن الشرع لله ولرسوله، ومن زاحمهما فيه قصمه الله. أيها الناس: من قال بشيء من عنده عاند الله ورسوله وكفر بما جاء به الحُجة على الخلق صلاة الله وسلامه عليه. ألم يقل ربكم «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي»؟ وتالله إن الآية لتشهد على أن كتاب الله وسنة نبيه ما تركا شيئًا إلا وقالا فيه القول الفصل. ولقد بلغنا عن الثقات العُدول بتواتر منقول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ» وقال أيضًا «كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار». يا أيها الناس اسمعوا وعوا، إن ربكم قد رحمكم إذ أكمل دينكم، فما قبض رسوله إليه إلا بعد أن ترككم على المحجة البيضاء ليلُها كنهارها، فلا يزيغ عنها إلا هالك. والله لن تفلحوا ما لم تسيروا على سنن الأولين، والله لن يصلح أمركم إلا بما صلُح به أمر أوّلكم. فتوبوا إلى الله توبة نصوحاً واعتصموا بحبله والتزموا سنة نبيه وهدي الخلفاء من بعده والصحابة والتابعين ومن تبعهم يستقم حالكم ويعلو شأنكم بين الأمم فتكونوا لهم سادة. استرخصوا نفوسكم وأموالكم في سبيل الله وحكّموا شريعته تكن لكم الأرض مهادًا أو تنالوا الشهادة مكرمة من الله لكم. ألا هل بلغت، ألا هل بلغت. اللهم فاشهد.».
3. مواطن مستنير سجل أحد القراء الخاطرة الآتية في دفتر يومياته بعد أن انتهى من قراءة كتاب ألكسندر كويري "من العالم المغلق إلى الكون اللامتناهي". «عظيمًا كان الأثر الذي أحدثه كتاب كوبرنيك "دورات الأفلاك السماوية": راصدُ السماء يدور وليس ثابتًا، يجوب آفاق الفضاء محمولاً على سفينة سيارة. الأرض نقطة صغيرة جدًا في فضاء لا متناه، وهي كوكب سماوي لا تختلف عنه الأجرام المحيطة به فيزيائيًا، فهذه مثله ثقيلة ويشوبها ما يشوبه من تغير واختلال. أمنا الأرض ليست قمامة، إنها حاضنة الحياة. ارفع رأسك عاليًا أيها الإنسان: أنت في السماء تجوب الآفاق. والفضاءات الواسعة المحيطة بك بكل ما فيها من أجرام عظيمة ليست أشرف منك. أنت عظيم لا بتركيبتك الفيزيائية ولا بتكوينك البيولوجي: فأهون الكائنات المادية قد تزعجك، لا بل قد تقتلك. أنت بالفكر والإرادة أسمى مقامًا وأعظم شأنًا من الكتل الصماء والبهائم العجماء. لا شيء في الكون الشاسع يُغري بالإتباع أو يدعو إلى الاقتداء. انظر الطبيعة خارجك ترى قوى تتصادم، وانظر الطبيعة فيك ترى النزوعات تتضارب. إن جعلت الطبيعة نموذجًا لك حكمت على نفسك وعلى أشباهك بخسران الإنسانية فيكم. ليس العالم أرستقراطيًا يا بني جلدتي، فلا تراتب فيه ولا تفاضل، لا فوق ولا تحت، ولا أحد فيه نبيل أو وضيع حسبًا ونسبًا. يا بني قومي، أصرخ مخاطبًا الإنسان فيكم: أنت بالفكر والإرادة المقاس والميزان، أنت مرجع التقويم وسند التشريع. مقاييسك ومعاييرك وقيمك وتفضيلاتك ... ذلك كله شأن يخصك أنت ولا علاقة للطبيعة به. أُعْلُ إلى أعلى علّيين أو اهْو إلى أسفل سافلين: لك الخيار. لكن لا تنسب للخالق شيئًا من سوء صنيعك. لا تقل إن الله قدر وشاء ولا رادّ لقدره ومشيئته. فأنت من تُقوّله إرادتك ومشيئتك، وفي سعيك لتسييد ما تظنه سلطانه إنما تسعى إلى الاستبداد على أشباهك من خلقه فتنصّب نفسك ناطقًا باسم الله. يا بني قومي، أنصتوا لعقولكم وإرادتكم بعد أن تُخرسوا صوت قناعاتكم التي لا يتقاسمها معكم غيركم وصوت مصالحكم الخاصة التي تؤدي إلى تصارعكم، وستدركون أن ما تشتركون فيه مع سائر البشر أكبر مما يُفرقكم: أنتم في الكرامة متساوون، والإنسانية ليست حكرًا على رجالكم دون نسائكم، أو على أغنيائكم دون فقرائكم. أنتم في الشرف لا تتفاوتون إلا بقدر جهودكم واستحقاقكم. كل معيار على أساسه تُقَوّمون يجب أن تكون غايته الارتقاء بالإنسانية في ذكركم وأنثاكم، في صغيركم وكبيركم. وكل قيمة تقدسونها وتُعلوا من شأنها، بينما هي تَحْرم البعض منكم من تطوير قدراته وتخنق استعداداته العقلية والخلقية، فهي باطل وعار ستسجله الأجيال القادمة في سجلّ مخازيكم.
يا أحباء الإنسانية، ويا مُعَلّمي مهنة الإنسان: علموا الأطفال في دور الحضانة والمدارس أن خلق الله سواء عنده، وأن الدين حياة لا موت، وأن كل تشريع أو تقويم يفاضل بين البشر على أساس العرق أو الجنس أو الدين باطل وعار ينبغي أن نخجل منه ونرفع الصوت ضده.
يا رجال الدين: كفوا عن الحديث بلسان الله، واتقوا الله في خلقه. ليكن مسعاكم إصلاح الأخلاق وليكن مبدأكم حكمة قالها الحكماء منكم وتطمسونها إذ تنغمسون في صراعات الدنيا، وهي: «حيثما توجد المصلحة [العامة] فثمة شرع الله».
يا رجال السياسة: كُفوا شروركم عن الناس، تحكمون عليهم بأنهم أشرار لا ينفع معهم إلا المكر والشدة. وتعاملكم هذا هو ما يجعلهم كذلك. ثقوا بشعوبكم، وضعوا مبتغى لكم إنماء الإنسانية في مواطنيكم وسترون منهم ما يسُرُّكم.