إن الإشكالية التيمولوجية لمصطلح " جمعية" تجعل من الصعب إعطاء مفهوم دقيق ومحدد للسياق النوعي للجمعية، وبالتالي تعريفها دون اللجوء إلى قراءة متعددة تتأرجح بين اللفظ اللغوي والمفهوم العلمي. قراءة تجعله مفهوما "حربائيا" يتلون حسب الثقافات والمرجعيات، ويأخذ دلالاته حسب المنظور الذي يتناول عبره. ومن هذا المنطلق المتذبذب يمكن إبراز بعض السياقات التي يعالج في إطارها مفهوم الجمعية:
سياق التفاوض: تبرز قوة الجمعية من خلال التفاوض، وعبره تتمكن من "بيع" مشروعها أو جزءا من هذا المشروع الذي يختلف في سياقاته ويتميز عن مختلف "المنتوجات"، خاصة في علاقاته المتفق عليها مع السلطات العمومية، والتي تفرض على الجمعية التفكير في الدخــول ضمن منطق التوافق أكثر من اللجوء إلى منطق الاتفاق، وبالتالي إبراز رهان التفاوض بيــن الشريكين: الجمعية والسلطة العمومية(1). وهو مافتئ يتضح من خلال تبني مبادئ المشاركة والتشارك والشراكة، والتي تدخل كلها في اطار "تعاقد اجتماعي مدني جديد" يرفع من مساهمة الجميع في بناء وطن يسع الجميع . هذا البناء الذي تتوطد دعائمه من خلال حرص الجمعيات ككيانات مؤسساتية حرة، مستقلة وتطوعية على الرفع من المستمر والمتواصل للقدرات التمكينية التي تتوفر لدى الطاقات الحية داخل المجتمع، من أجل تحقيق المبتغى المنشود والمطمح المأمول في تكريس تنمية شاملة مندمجة ومستدامة .
سياق التراكم: هنا تبرز الجمعية، كفضاء للتجريب الشخصي والجماعي، كمنطلق للتكوين والتراكم المعرفي، وبالتالي تصبح مدرسة للحياة والعلاقات الإنسانية، وعبرها تتجسد كلحظة قوية يكتشف من خلالها الشباب محليا عالم المؤسسات واللعبة السياسية برمتها(2) ، بعد أن يخوضوا غمار تجربة الكشف عن ما يختلج الحياة المدنية من تدافع ومرافعة ونقاش وتواصل... إن الجمعية بذلك تتجلى كتنظيم متراص يبحث عن تعزيز بنيان التجارب التراكمية. ومن ثم، بلورة العناصر المحفزة على تكوين الشخصية الإنسانية لدى منتسبيها وإيجاد "التفريغات النفسية" الضرورية لتقوية الذات وجعلها تتعامل مع مشاكل الحياة بكل سلاسة وقوة . إنها فرصة لتماهي الذوات الفردية المختلفة وانصهارها في الذات الجمعية وانغماسها في الكل الجمعي. وبالتالي، تبادل التراكم في حد ذاته كمعطى لتغذية الأبعاد الايجابية التي يمكن أن يتصف بها منخرطي الجمعية.
سياق التاريخ: هنا الجمعيات وبحكم تعدديتها تلف في طياتها أفراد اختاروا التدبير الجمعي، وفق رؤية جامعة لكل الشعوب ولكل الفضاءات الاجتماعية، كما أنه ضمن سياقات التاريـخ عموما تعتبر الجمعية شكلا مميزا للنشاط الجماعي ومن المنطلق المؤسساتي تعد فضاءا للحرية، وعلى ضوء ذلك وأمام " الانفجار" الجمعوي الذي اتسمت به العقود الأخيرة، اقتنعت السلطات العمومية بالدور الريادي للجمعيات في مجتمع أحيانا ينظر إليه على أنه غير مهيكل، كما اعترفت أيضا بكون الجمعيات في الوقت الحالي ترسم معالم لحظة مميزة للالتزام الحضري(3). فاللحظة "تاريخية" بامتياز لفرض الوجود من طرف التنظيمات الجمعوية. وهو الوجود الذي عليه أن ينتقل من القوة إلى الفعل ومن الارتكان إلى مرحلة التأسيس إلى الاقتناع بجدوائية مرحلة ما بعد التأسيس. فالعديد من الجمعيات "أسست / تؤسس من أجل التأسيس لاغير". وهو الأمر الذي يفسر كثرة الجمعيات التي تولد "ميتة" أو على أبعد تقدير تبلغ "ربيعها الأول" لتنقرض تمام الانقراض وتذهب طموحات وجهود أعضائها المؤسسين على ضوء ذلك سدى. إن "عقدة التأسيس" تظل بلا شك إشكالية تاريخية عميقة مافتئت تجهض آمال ورهانات الحياة الجمعوية خصوصا وحياة الفعل المدني عموما. فعوض أن تشكل لحظة التأسيس "بداية تاريخ "للجمعية أضحت ولأسباب متعددة "نهاية تاريخ" لها.
سياق المصلحة العامة: يرتبط بسياق التفاوض، حيث تبرز الجمعيات من خلال السياقين معا كشريك طبيعي، إن لم يكن مميز للجماعات المحلية(4). وانطلاقا من ذلك تبرز الشخصية العموميــة كتجسيد لنشاط المصلحة العامة، وحيث تأخذ الجمعيات المبادرة لتشكل نمط من الجمعيات الشفافة (5)Associations transparentes، أي الجمعيات التي تتناول قضايا ومجالات اشتغالها بنوع من الحنكة الريادية/ التدبيرية. وذلك عبر تجسيد الأهداف المرسومة في قوانينها الأساسية بكل كفاية وفعالية. ومن ثم، بروزها كجمعيات "محوكمة" ترسم خارطة طريقها بكل استشرافية واستراتيجية. وهو ما يجعلها في نهاية المطاف تذوب في أعماق المجتمع الذي تعمل في اطاره. وهو ما يتجلى في حرصها الأكيد على الاستجابة الآنية والفورية لمطالب وانشغالات شرائح عريضة من الفئات المستهدفة.
سياق اللاربحية: حيث حمولة مصطلح " الجمعية "تفترض وجود تجمع إرادي، تطوعي يصبو إلى تحقيق هدف مشترك(6). وهنا تتمثل الجمعيات كمنظمات تطوعية وتتأطر ضمن الفئة القانونية للجمعيات غير الربحية(7). وبالتالي تبرز الخاصية المميزة للجمعيات في واقع الأمر من خلال هدف التجمع والمحدد حسب القانون الفرنسي 01 يوليوز 1901 (كما هو الشأن للقانون المغربي من خلال ظهير 15 نونبر 1958) في الهدف غير الربحـي Le but non lucratif ، فالهدف الأسمى للجمعية ليس هو اقتسام الأرباح ، وهذا هو مفتاح تعريف الجمعيات(8). حيث تشير طبيعة مفهوم "الجمعية" إلى الجوهر الفلسفي العميق للعمل التطوعي بصفة عامة، وهو فكرة المبادرة الذاتية للفرد من منطلق قناعته وإيمانه بقدرته على الفعل والتأثير في محيطه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي وتغيير الأنماط السائدة وبلورة توجهاتها المتعددة. ومن ثم، فإن غالبية العلاقات في جمعيات المجتمع المدني تتم في إطار مجموعة من المؤسسات ذات النفحة التطوعية، أي تلك التي ينضم إليها الأفراد بكل استقلالية وحرية وبملء إرادتهم وبتعبير صادق عن قناعاتهم إيمانا منهـم في نهاية المطاف بقدراتهم وقدرات هذه المؤسسات على حماية مصالحهم والتعبير عنها وفق رؤى تتسم بالنجاعة والكفاية . بحيث يكون التطوع هنا هـو المجهود الذي يقوم به الفرد بصفة اختيارية وطوعية ،عن طريق شكل من الأشكال المختلفة للمساهمة، قد تكون عمل أو علم أو رأي أو تمويل أو غير ذلك مما يتوخى خدمة المجتمع. ويبرز أنجح شكل يكون عليه التطوع في الجمعيات أو المشاريع المنجزة بمبادرة أفراد متطوعين ينتظمون ضمن هيئة مهيكلة، منظمة وممأسسة، رغبة منهم في مساعدة المجتمع والرقي به عن طريق استخدام امكانياتهم الخاصة، البشرية والمادية.
سياق التعدد: فالجمعية عموما شكل لتجمع مركب بين الأشخاص ، وبالتالي فهي انعكـاس للشراكة الداخلية بين أعضائها من خلال نشاطها الغائي وبين الأشخاص الآخرين. الجمعية هنا " نظام" للعناصر النشيطة(9) وإبراز للخليط المجتمعي وفضاء للتعدد أو مصدر للشرعية التعددية / الجمعية La Légétimité pluriel. (10) إن الفلسفة التي يبنى عليها المكون الجمعوي لم تكن يوما ما تصورا أيديولوجيا صرفا، بل هي فلسفة واقع تدبير التوافق وخلق ائتلاف للاختلاف وجعل التعدد مبدأ إنسانيا رفيعا قادرا على إتاحة الفرص أمام الجميع بشكل متساو ومتكافئ، وجعله أيضا الملاذ الآمن للعيش المشترك والتربة الخصبة للتعايش "السلمي"، ووضع الإطار الملائم لبناء مستقبل الأجيال المتعاقبة، بشكل مستدام وتشاركي. إن سياق التعدد، هو الذي يضفي على مفهوم "الجمعية" نعت "المشترك الايجابي" . وذلك من منطلق الإيمان بضرورة تكثيف جوهر هذا التنظيم باعتباره مجمع لتعددية مختلفة : في الآراء، في المواقف، في التركيبة، في التصورات، في الرؤى، في الأنشطة، في البرامج... في كل شيء يمكنه أن يساهم في بناء الفعل المؤسساتي لهذا النموذج الدينامي والفعال، والذي يعد أرقى شكل من أشكال التنظيمات التي عرفتها البشرية جمعاء عبر حقبها المختلفة.
وخلاصة القول فإن كل السياقات السابقة تشتغل وفق آلية الديمقراطية(11) ، مما يضمن لها النجاعة والفعالية، ومع ذلك تظل المحاذير الابستيمولوجية بخصوص تعريف الجمعيات قائمـة ذات، الشيء الذي يحتم الاعتماد على القراءة المتعددة المستويات: القانوني، الاجتماعي، النفسي.
الاحالات:
(1) Georges Gont Charoff « Guide du partenariat des associations et des pouvoirs locaux » série : Actualité sociale et politique. (L’Harmattan 1988). P 20.
(2) Dan Ferrand – Bechmann « Les bénévoles et leurs associations. Autres réalités ; autre sociologie » (L’Harmattan décembre 2004).P 28.
(3)Jean Defrasne « Histoire des associations Françaises » série : Acteurs de la science Histoire. (L’Harmattan 2004). P 7 .
(4) Jean David Dreyfus. Hervé Groud ; Serge Pugeault « Associations et collectivités territoriales ; les liaisons dangereuses », Série : Administration et Aménagement du territoire. (L’Harmattan Juin 2009) P 15.
OP.CIT. P 21. (5)
(6) Ms sian Lewis – Anthony « Freedom of association and political Democracy; case law of Article 11 of European convention on Human Rights «Klwer Academic Publishers – council of Europe press 1994. P34
(7)Anne Marie Dieu « Valeurs et Associations entre changement et continuité » Logiques Sociales 1999. P 9
(8) Karine Rodrigue « Le droit des associations » (L’harmattan 2004), P 9
(9)Michel adam « Associations ; Image de la société ; carnets de voyage d’un militant invétéré » (L’Harmattan 2005). PP 31- 32.
.OP.CIT P 45 (10)
(11) Tariq Ragi « Acteurs de l’intégration les associations et les pratiques éducatives » . (L’Harmattan 1997), P 7.