وبالنسبة لرواية المقريزي السابقة فهي لا تمت الحقيقة بصلة، فقد أمدتنا المصادر المملوكية بمعلومات عن بعض الطباق التي تسبق إشارة المقريزي، فقد أقام الظاهر بيبرس عام 676هـ بقلعة الجبل مجموعة من الطباق التي تطل علي المسجد بالإضافة لتشييده للبرج الزاوية بالقرب من باب القلعة وأقام بالقرب منه أيضا طباق المماليك. وفي سنة 693هـ قام الأمير زين الدين كتبغا - الذي تولى السلطنة فيما بعد – بنقل المماليك السلطانية الذين كانوا يعيشون في الأبراج والطباق من قلعة الجبل إلى قلعة الكبش ودار الوزارة التي كانت داخل باب النصر.
أضف إلى ذلك؛ ما جاء في بعض المصادر أنه في سنة 715هـ وقعت النار في البرج المنصوري من قلعة الجبل والطباق الديمترية فاحترقت. وقد أشار المقريزي في كتابه "الخطط" – المعروف بالخطط المقريزية- إلى الروق الناصري، فالسلطان الناصر محمد قام في عام 716هـ بعرض طباق المماليك السلطانية (الروق) في عملية مسح للأراضي الزراعية وفك الزمام وتعديل الخراج، وقد تمت هذه العملية في مصر الإسلامية عدة مرات أشهرها الروق الناصري والروق الإسلامي.وفي سنة 719هـ قام الناصر محمد بطرد الأمير سيف الدين البويكري من داره بالقلعة وألزمه الإقامة في مدينة القاهرة، وأعطى أوامره بهدم الدار التي كان يسكنها وشيد بدلاً منها طباق للمماليكالخصجية (الخاصكية ) وهم جماعة من مماليك السلطان تقوم بترتيب البرتوكول المملوكي، وكان عددهم في البداية (24) ثم زادت مميزاتهم فتمتعوا بمكانة كبيرة، فكانوا يدخلون على السلطان في أوقات فراغه، كما خصص لهم السلطان العطايا الكثيرة فاشتهروا بحسن مظهرهم وأناقة ملابسهم.وفي عام 723هـ وصلت رسل السلطان السعيد (سلطان المغول) فأنزلهم السلطان طبقة النيابة بالقلعة، وسنة 737هـ أمر بهدم الطبقة الحسامية المجاورة لدار النيابة بالقاهرة.أما عن عدد الطباق في العصر المملوكي؛ فيذكر المؤرخ خليل بن شاهين الظاهري في كتابه "زبدة كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك" أن عدد طباق المماليك الشريفة السلطانية (12) طبقة، كل طبقة تضاهي الحارة وتساوي عدة مساكن يمكن السكن فيها حتى تصل في كل طبقة لألف مملوك، وتتسع السكنى إلى (12) ألف مملوك.
لذلك ترد في المصادر المملوكية المعاصرة أسماء (18) طبقة وهم حسب أسبقية ظهورها في المصادر المملوكية كالتالي:’’طبقة الرفرف: أولى هذه الطبقات لأنها أقيمت فوق قصر الرفرف الذي سبق للأشرف خليل بن قلاوون أن عمره حيث استمر جلوس الملوك به حتى قام بهدمه الملك الناصر محمد بن قلاوون لكي يشيد فوق هذا المكان طباق المماليك. –طبقة الطازية – طبقة الزمام: وهي وظيفة في العصر المملوكي، وزمام دار أي الموكل بحفظ الحريم- طبقة الأشرفية:نسبة إلى الطواشي الذي حمل لقب النسبة إلى السلطان الأشرف برسباي – طبقة الحوش- طبقة الغور- طبقة المقدم: نسبة إلى مقدم المماليك أو مقدم الطباق- طبقة الصندل: الصندلية نسبة إلى خزندار السلطان برقوق الأمير الطواشي صندل الرومي- طبقة الخازندار – طبقة الميدان – طبقة المستجدة – طبقة القاعة – طبقة قداجا – طبقة الأربعين – طبقة الطواشي مرجان: الخازندار والمشرف على خزائن السلطان من الأموال والأمتعة – طبقة فيروز الخازندار – طبقة الخروب – طبقة البرانية ) والملاحظ أن؛ أغلب هذه الطباق كانت تسمى بأسماء الطواشي أو بعض الوظائف المعروفة في العصر المملوكي، على سبيل المثال طبقة الزمام، وطبقة الخازندار، وطبقة فيروز الخازندار,, وتجدر الإشارة هنا إلى؛ اهتمام سلاطين المماليك بتربية المماليك داخل الطباق حتى بلغ اهتمام بعض سلاطين المماليك بتربية مماليكهم والإشراف عليهم إشرافاً مباشراً، فقاموا باستدعاء المملوك أمامهم ليقرأ ما تعلم، ليس هذا فحسب بل كثيراً ما كان السلطان يذهب بصحبة كبار الأمراء إلى الطباق ليفاجئهم بزيارته،ومن أجل تفقد أحوال الطواشية في الطباق. كما عينوا لهم المؤدبين من بين الطواشي الخصيان وذلك لعدة أسباب كان أهمها الحرص على سلامة أولئك الأحداث – صغار السن – الذين كانوا يوضعون في الطباق وهم في سن مبكرة، وخوفاً عليهم من الشذوذ الجنسي الذي أبتُلى به المجتمع المصري في العصر المملوكي. فقد وجدت أمراض وانتشرت في مصر في العصر المملوكي مثل: فساد خلقي (الزنا – الشذوذ الجنسي – تعاطي الحشيش وشرب الخمور - الرشوة)، بالإضافة إلى المعتقدات الباطلة: (الاعتقاد بالأولياء والمشايخ – الاعتقاد بالجن والسحر).
وقد عبر المقريزي تعبيراً صريحاً عن انتشار هذا الداء بين المماليك بمصر فقال: " فشا في أهل الدولة محبة الذكور حتى عمدت النساء إلى التشبه بالذكور" مثل لبس ملابس الرجال، ولذلك كان على الطواشية الفصل بين الأحداث من المماليك والبالغين حتى لا يفسد ويختل نظام الطباق. ويفهم من المصادر المملوكية المعاصرة أن موظفي الطباق كانوا يؤلفون في مجموعتهم ما يشبه الشكل الهرمي بمعنى أن الطواشي في القاع (القاعدة) في حين أنه يحتل القمة رؤوس النواب والمساعدين، غير أن المصادر المملوكية لم تخبرنا بعدد الطواشي العاملين في الطباق، وقد أطلقت المصادر عليهمطواشية الطباق أو خدام الطباق أو سواقون الطباق.أما عن مكانة الطواشية في العصر المملوكي؛ فيذكر المقريزي أن هؤلاء الطواشية في عهده كانوا ذوي حرمه وافرة وكلمة نافذة، كذلك ذكر بن تغري بردي في كتابه "النجوم الزاهرة" أن الطواشي كانت لهم السطوة والمهابة على المماليك السلطانية حتى لا يتجرأ أحد أن يمر بين يديه بسب أو بغير سبب وحينما يقع بصره على هذا المملوك يأمر بضربه،لذا كان لديهم مكانة بين المماليك السلطانية. واقع الأمر؛ أن هؤلاء المقدمين أو الطواشية كانوا مسئولين عن تربية المماليك في الطباق كما يفهم من قصة ذكرتها لنا المصادر المملوكية، وهي أنالسلطان الناصر محمد بن قلاوون عرف أن أحد مماليكه قام بشرب الخمور فأمر بضربه حتى مات،وقام بقطع جوانق (رواتب) مقدمي الطباق من الطواشية،وأنزلهم من القلعة لأنهم فرطوا في تربية المماليك.وفي هذا الصدد نقرأ أيضاً على عهدالسلطان الأشرف شعبان أن أمر بضرب الطواشي سابق الدين مثقال مقدم المماليك ما يقرب من (600) عصا وذلك لمجرد كذبه، كما تم نفيه إلى أسوان وعين آخر بلاً منه.
على أنه من الخطأ الاعتقاد؛ بأن وظيفة مقدمي المماليك كانت قاصرة على الطواشي دون غيرهم من أمراء هذا العصر، فقد كان مقدم المماليك يُختار في أغلب الأحيان من بين أمراء الطبلخانة، كما تشير المصادر أن السلطان الناصر محمد بن قلاوون في سنة 732هـ وجد أن بعض المماليك قد نزلوا من قلعة الجبل إلى القاهرة، فغضب السلطان لما حدث وقام بضرب الطواشية في الطباق بل وطرد جماعة منهم وأنكر على مقدم الطواشي الكبيرعنبر السحتي ذلك الأمر لتهاونه في تربية المماليك، وقام بصرفه وعين بدلاً منه الأمير أقبغا عبد الواحد الذي عُرف بشدته،فقام بضبط طباق المماليك بالقلعة وضرب عدد من الطواشي وبالغ في إهانة الخدم أيضاً، وبالتالي لم يتجرأ أحد من المماليك أن يتجاوز النظام.
في حين كان نائب مقدم المماليك يعين من بين أمراء العشرة، غير انه حدث سنة 791هـ أن تدهورت وظيفة تقدمة المماليك السلطانية عندما تقلدها احد أمراء العشرة مما جعلابن تغري بردي يتعجب قائلا:"ولم يقع مثل ذلك أن يكون مقدم المماليك أمير عشرة".
المصادر:
- ابن تغري بردي:(أبو المحاسن جمال الدين يوسف ت 874هـ)، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، دار الكتب المصرية، القاهرة 1972.
- ابن شاهين: ( غرس الدين خليل ت872 هـ/1467م) ، زبدة كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك ، تحقيق بول رافيس،المطبعة الجمهورية،ب.ط ، باريس 1893.
- المقريزي: (تقي الدين أحمد بن علي ت845هـ)، السلوك لمعرفة دول الملوك، ج1-2،تحقيق محمد مصطفى زيادة،الطبعة الثانية، القاهرة 1942؛ ج3-4، تحقيق سعيد عبد الفتاح عاشور، القاهرة 1970.
- المقريزي: (تقي الدين أحمد بن علي ت845هـ)، الخطط والآثار في مصر والقاهرة والنيل وما يتعلق بها من الأخبار، طبعة النيل، القاهرة 1326هـ.
المراجع:
- سعيد عبد الفتاح عاشور، العصر الماليكي في مصر والشام،دار النهضة العربية، الطبعة الثانية، القاهرة 1976
- سعيد عبد الفتاح عاشور، المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك،دار النهضة العربية، طبعة مزيدة ومنقحة،القاهرة 1992.
- محاسن محمد الوقاد،الطبقات الشعبية في القاهرة المملوكية (648-923هـ/1250-1517م)،سلسلة تاريخ المصريين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الأولى، القاهرة 2000.
- محاسن محمد الوقاد، محاضرة بعنوان "الطباق"، ألقيت في كلية الآداب (قسم التاريخ) - جامعة عين شمس،القاهرة ابريل 2000. (غير منشورة)
- محمد أحمد دهمان، معجم الألفاظ التاريخية في العصر المملوكي، دار الفكر، دمشق 1990.· محمد سهيل طقوش، تاريخ المماليك في مصر وبلاد الشام،دار النفائس، بيروت 1997.
المواقع الإلكترونية:
- عماد بدر الدين أبو غازي، محاضرة بعنوان " منازل الأمراء في العصر المملوكي"، ألقيت في مركز الميدان الثقافي (مقر منطقة حولي التعليمية)،متاح بتاريخ 10 يناير 2008 على الرابط: http://alraialaam.com/Templates/frNewsPaperArticleDetail.aspx?npaId=18926