أحببت أن أعلق على هذا الكتاب الهام للشاعرة جمانة حداد لسببين: أهميته، وكونه يسلط الضوء على جانب مظلم في الشعر المعاصر خاصة الشعر العربي، حيث تبقى حياة بعض الشعراء طلاسم يصعب على قارئ الشعر فك خيوطها، وفي ثقافتنا العربية ميل كبير إلى التعتيم حتى لقد ألفنا حياة العتمة وتعودنا عليها فأصبحت قيمة من قيم حياتنا الفكرية. وكتاب جمانة حداد من الكتب التي تضيف رصيدًا إلى مكتباتنا، فلقد بذلت الكاتبة الشاعرة جهدًا مميزًا، وحسبك أنها أتت على قرن كامل من الشعر في الشرق والغرب تترجم لحياة الشاعر وتثبت نتفّا من أشعاره من لغتها الأم وهو جهد مضاعف قامت به مع بكل تقدير.
وهؤلاء الشعراء من القرن العشرين قد اختاروا أن يرحلوا بإرادتهم لأسباب عدة خاضت الكاتبة في تفاصيلها، فكشفت الستار عن كثير من الغامض والمبهم، واصطنعت عنوان قصيدة لشاعر إيطالي رحل بإرادته كذلك، وهو "تشيزاري بافيزي" 1908/1950 عنوانًا للكتاب، وعنوان قصيدته: "سيجيء الموت وستكون له عيناك"، وكنت في إحدى مقالاتي في كتاب "وهج الأربعين" قد عرجت على هذه الظاهرة وتحديدًا في مقالة "بيدي لا بيدك عمرو" كنت قد عرجت على ظاهرة الانتحار في أدبنا الحديث، وذكرت في جملة من ذكرت الشاعر أحمد العاصي وصالح الشرنوبي من مصر، والشاعر الكبير خليل حاوي من لبنان.
وكنت أود والكاتبة أحصت من الشعراء المنتحرين مئة وخمسين شاعرًا -حتى أنها تكاد لا تترك زيادة لمستزيد- كنت أود أن تذكر الشاعر النابغ صالح الشرنوبي من مصر الذي عاش بين سنتي 1924و1951، والذي انتهت حياته تحت عجلات القطار مثل الشاعر التشيكي "جوزيف أتيلا"، وقد خلّف الشاعر دواوين عدة "أصداف الشاطئ" و"نسمات وأعاصير" و"وطنيات" و"في موكب الحرمان" و"أشعار ورسوم" و"ظلال وألوان" و"مع الريح"، وكان الكاتب والشاعر صالح جودت قد أتى على ذكره في كتابه "بلابل من الشرق" وأثبت نتفًا من أشعاره وقد كان صديقًا له ومن أشهر أشعاره:
غدًا يا خيالي تنتهي ضحكاتنا
وآمالنا تفنى وتفنى المشاعر
وتسلمنا أيدي الحياة إلى البلى
ويحكم فينا الموت والموت قادر
وقد كان العقاد قد أثنى على الشاعر وتنبأ له بمستقبل زاهر في الشعر الحديث، وقد مارس الشرنوبي التجديد قبل السياب والملائكة في قصيدته "أطياف":
إذا ما العاشق المجهول أغرى الشمس باللقيا
وراء الأفق الضاحي
فمنته ومدت، كخيوط الوهم إشعاعاتها
الحمرا
كما منيتني يوما وفي خديك توريد
وسالت من شفاه السحب الترانيم
تهدهد ربة الإشراق إذ أسكرها الحب
لكن لا تعجل الخطوا
وأسكرها نداء الحب فاستقبلت الليلا
وحيته وألقت ثوب نساك معابيد
وغيب خصرها البحر
فكانت في مرائي العين محرابا من التبر
وغنى الليل في الآفاق أنشودة أشواقه
وهوم ذاهل الحسن وفي كفيه مصباحه
وظلل جنحه الدامي نجوما مثل أيامي
توالى السعد والنحس عليها
واصطلت حرب ليال حصدت عمري
وعمر الأنجم الزهر
وماس الضوء
بربك إن صحا الفجر وسار الأفق بالبدر
وغادتك مع الأنسام أطياف الهوى الطهر
فلبى الهاتف المجنون قد ند عن الصدر
وذاب مع النسيم ندى ليوقظ ناعس الزهر
وتيمه شعاع الفجر فانساب مع الفجر
وشاقته معاني الروح راووق أشعاره
فمثل شوقه الملتاع أشباحا وأطيافا
وكنت أود أن تتحدث عن الشاعرة التعيسة ناهد طه عبد البر من مصر 1920/1950 كذلك، وتعاستها زادت حين لم ينشر ديوانها بعد رحيلها وكانت أوصت بطبعه، وقد ربطتها علاقة بالناقد أنور المعداوي، ولها نفَس شعري لا يخفى فى سوداوية ظاهرة، وقد ثارت على التقاليد التي تكبل الأنثى في الشرق فقالت في قصيدة "وفاء وحنان":
إلهي أفـي الغرب هـذا الـوفاءْ؟
أتحظى النساء بهذا الحنانْ؟!
وفي الشّرق يظلمهنّ الرّجالُ
ويقسو عليهنَّ صرف الزمان
أتُظْلَمُ حوّاءُ روحُ الحنانِ
ويُجزَى الوفاءُ بهذا العقوقْ؟!
أتُظلَم بالشّرق مهد الهداةِ
وأرض الشّداة بنيل الحقوق؟!
أرى حكمةَ اللّه في شرعِهِ
تردُّ الفساد وتَهدي الضلالْ
ففيم التلاعبُ بالدّين ربّي
وباسم الشريعة يـطغى الرجال؟!
يريدونهنّ متاعًا لهم
تعدّدنَ مـثنى به أو رُباعْ
أهذا هو الشّرع؟ يا ويحهم
لقد صـيّروه سبيلَ الخداع
أخذتم من الغرب تلك القشورَ
وحبَّ المظاهر دون اللّبابْ
وأنتم لعـمريَ لا تبتغون
سـوى الجسمِ مثل جياع الذّئاب
وأنكرتمُ الرّوحَ يا ويحكم
وأين هو الرّفق؟! أين الحنانْ؟
ونبل النفوس؟ وصدق الوفاءِ
وأين النّبيل بهذا الزّمان؟
ويا لهفَ من ضلّلتها المعاني
وحثّت خطاها ابتغاء الكمالْ
فطاح الخيال بعذب الأماني
ولم تدرِ أين تحطّ الرّحالْ
ظننتُ بأحـلامهـا أن تُسامَ
صغارَ الجسوم وثقْل الأثامْ
أنهوي إلى الطّين بعد التّسامي
كما يسقط النّجم فوق الرّغام؟
وهذا النص يلقي الضوء على نفسيتها الغارقة في السواد والانطوائية، ويبدو أن مرضها زاد في كآبتها فأنهت حياتها بيديها.
كتاب مهم لجمانة حداد تستحق عليه الثناء، وهو كتاب خليق بأن يقرأ ففيه من الأشعار الجزلة المعبرة عن النفس الكثير، وكنت أحب أن لا تسقط الكاتبة هذين الشاعرين القديرين من عالمنا العربي خاصة وأنها ذكرت الجميع أحمد عاصي، منير رمزي، أنطون مشحور، خليل حاوي مصطفى محمد، تيسير سبول، عبد الله بو خالفة، فاروق سميرة، إبراهيم زاير، قاسم جبارة وغيرهم.
التدقيق اللغوي لهذه المقالة: هبة البشير