فن البيطرة: هو علمٌ يُبحث فيه عن أحوال الحيوانات الأهلية من حيث معالجة أمراضها وحفظ صحتها والاعتناء بشأنها. وقد كان هذا الفن محصوراً في طب الخيل، ثم عمَّ فصار مما يُعرف بالطب الحيواني فيشمل كل حيوان تسلط عليه الإنسان وله منه منفعة من الدواب وغيرها. وهذا العلم الذي هو فرع مهم جدًا من فروع الطب كان يتقدم بتقدم صناعة الطب لأن بنية الحيوانات كبنية الإنسان من حيث نموها وصحتها وتعرضها للعلل إلى غير ذلك، بالإضافة إلى أهمية الحيوان في إشغال الإنسان. ومما يدل على أهمية إتقان هذا الفن كوّن الحيوانات إذا ضُربت بوباء أضرت كثيرًا بالناس وبالبلاد معًا.
وقد ذُكر أن علم البيطرة "الحال فيه بالنسبة للحيوانات كالحال في الطب بالنسبة إلى الإنسان وعُنىّ بالخيل دون غيرها من الأنعام لمنفعتها للإنسان في الطلب والهرب ومحاربة الأعداء وجمال صورها وحسن أدواتها".
البيطرة عند العرب قبل الإسلام :
لقد اهتم العرب في الجاهلية بالحيوانات والدواب اهتمامًا كبيرًا، فمن المعروف أنه كان للعرب مهنتين أساسيتين هما الرعي والتجارة، فكانوا يعتمدون على الدواب في شتى مجالات حياتهم سواء في الرعي أو التجارة أو التنقل أو الحروب والمنازعات وغيرها، وكانوا يعتبرون الخيل من أعز ما يمتلكون حيث ارتبطوا بها ارتباطًا وثيقًا، وكانوا على دراية بمعرفة فضائلها من العزة والتشرف وصبرها على المخّمصة والشدة، وكانوا يكرّمونها ويؤثرونها على الأهلين والأولاد، ويفتخرون بذلك في أشعارهم.
ولم يكن اهتمام العرب في الجاهلية بالخيل والدواب على أساس حسي وأدبي فقط بل كان هناك اهتمامًا بيطريًا ليس من السواس والمربين فقط بل من أطباء بيطريين متخصصين، حيث تعتبر رعاية الحيوان والعناية به وبعلاجه ودراسة حياته وتطوّر الاستفادة منه مما عرفته المجتمعات المتحضرة التي عرفت استئناس الحيوان، ففي هذا العهد الجاهلي للعرب عرفت العناية بالجمل والخيل مثلاً، ومن أشهر الأمراض المعروفة في ذلك الوقت كان الجرب، حيث كانوا يعالجونه بالقطران كما هو معروف، علاوة على أمراض أخرى عرفوا تطبيقها، وقد ظهر طبيب بيطري عاش في العصر الجاهلي يُدعي العاص بن وائل، وهو أبو الصحابي عمرو بن العاص رضي الله عنه، وقيل أنه كان يعالج الخيل والأبل.
علم البيطرة عند المسلمين:
لقد عرف الإنسان العربي والمسلم أنواعًا مختلفة من الحيوانات، وتشير ما خلَّفته المخطوطات من موضوعاتها المختلفة سواء علمية أو أدبية، مثل الأمثلة والأسجاع والأشعار والأخبار إلى معلومات دقيقة تناولت سلوك الحيوان وطرق علاجه وأسلوب معيشته وكيفية اصطياده وأماكن معيشته، هذا بالإضافة إلى الصفات الجسدية والألوان، بحيث يمكن الاستنتاج بأن هذه المعرفة قد تجاوزت حدود الملاحظات العابرة، وإنما انتقلت بالفعل إلى مرحلة دقة الملاحظة والمراقبة المُستمرة للحيوان من جميع الوجوه، وإجراء العديد من التجارب عليه، وبخاصة تلك الحيوانات التي استفاد منها في حياته اليومية والمعاشية.
فلقد لقي الطب البيطري وعلم الحيوان من المجتمع المسلم وعلماء الإسلام اهتمامًا قلَّ أن نجده في مكان آخر فالقوم شغفوا حبًا بكرائم الخيل، فكان من مقتضى هذا الشغف أن يعنوا العناية الفائقة بها وأن يحرصوا على صحتها ويجمعوا ما استطاعوا أن يجمعوا من الملاحظات المفيدة بشأنها، وإذا كان القوم أكثر الناس معرفةً بأخلاق الخيل وما تحتاج إليه فلابُدَّ وأن يكونوا أكثر الناس معرفةً بأمراضها وعلاجها. فهذا ليس بالغريب على المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية.
وقد وضَّح حاجي خليفه مدى اهتمام العلماء المسلمون بعلم الحيوان، وعرّفه بأنه "علمٌ باحث عن أحوال خواص أنواع الحيوانات وعجائبها ومنافعها ومضارها وموضوعه جنس الحيوان البري والبحري والمائي والزاحف والطائر وغير ذلك والغرض منه التداوي والانتفاع بالحيوانات والاحتماء عن مضارها والوقوف على عجائب أحوالها وغرائب أفعالها".
ومن المعروف أنه قامت الحضارة الإسلامية على الشريعة الإسلامية، والتي هي نتاج القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، هذا بالإضافة إلى انكباب المسلمين على دراسة كافة العلوم التي تركتها الأمم السابقة على الإسلام.
فمن المعروف أن الإسلام كدين عالمي يحُض على العلم ويعتبره فريضة على كل مسلم لتنهض أممه وشعوبه، ولم يكن في أي وقت مدعاة للتخلف كما يدَّعي الحاقدين فأي علم مقبول إلا لو كان علمًا يخالف قواعد الإسلام ونواهيه فلقد دعا صلى الله عليه وسلم إلى طلب العلم ولو كان بالصين، والإسلام يكرِّم العلماء ويجعلهم ورثة الأنبياء ويحثهم على طلب العلم من المهد إلى اللحد، وتتميز الحضارة الإسلامية بالتوحيد والتنوع العرقي في العلوم والفنون والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية، فالإسلام لا يعرف الكهنوت الكنسي كما كانت تعرفه أوربا، ولأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظل الإسلام ودعت إليها الحضارة الإسلامية العربية وقد ساهمت بشكل كبير في النهضة الإسلامية التي جعلت العرب والشعوب الإسلامية المبتدِّية يحملون المشاعل التنويرية للعالم في العصور الوسطى، حتى أصبحوا فيها سادة العالم ومعلِّميه. ومن العلوم التي اهتم بها المسلمون اهتمامًا بالغًا هي علم الحيوان والطب البيطري، فلقد اهتم المسلمون بعالم الحيوان اهتمامًا بالغًا بشكل غير مسبوق، ولعل اهتمام القرآن الكريم بعالم الحيوان ودعوة الإنسان للنظر إليه بتعدد ذكر أصنافه وأنواعه كان لها الأثر البالغ في ذلك.
فالقرآن الكريم الذي نزل على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا قد دعا إلى الدراسة العلمية للحيوان، وأوضح حقائق علمية عن الحيوان تُمكِّن الإنسان من الوقوف على أصول علم الحيوان ومعرفة أسراره فدعا للنظر والمشاهدة، ومن خلال المتابعة للوصف الظاهري للحيوان يمكن التوصُّل إلى معرفة مدى سلامته وقوة بدنه وصحته، أو معرفة درجة صوابيته وذلك بدقة المشاهدة – أي الرؤيا بالبصر- فقد تحدث القرآن عن ذلك وأوّرد الوصف العلمي التفصيلي لمشاهدة الإنسان ببصره للحيوان، ففي وصف بقرة إسرائيل حيث حال جدالهم لموسى الكليم عليه السلام، فجاء القرآن بأوصاف مميزة لها عن غيرها من سائر أبناء جنسها آنذاك، واستمر الجدال منهم وتوالت آيات التنزيل بالوصف، في قوله تعالى: "وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. قالوا ادع لنا ربَّك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرةٌ لا فارضٌ ولا بكرٌ عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون. قالوا ادع لنا ربِّك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرةٌ صفراء فاقعٌ لونُها تسرُّ الناظرين. قالوا ادعُ لنا ربَّك يبين لنا ما هي إنَّ البقر تشابه علينا وإنا إن شاء اللهُ لمهتدونَ. قال إنه يقول إنها بقرةٌ لا ذلولٌ تثير الحرث مُسلمةٌ لاشية فيها قالوا الآن جئت بالحقّ فذبحوها وما كادوا يفعلون" (البقرة؛ 67: 71). فلقد وضَّح القرآن الكريم ضوابط فنيه كمقياس لصحة البقر، فاعتبر من العلامات الدالة على سلامة صحتها وعافيتها، إثارتها لغبار الأرض بحوافرها حال سيرها، ودعا الإنسان إلى النظر إلى الحيوان حال سيره، وبيّن له علامة التمييز للصحة والعافية من المرض والهزل، إذ يلاحظ سير الحيوان السليم والمريض بحركات أقدامه واستقامته واتزانه حال السير وقوة دفعه وتحكمه في أعضائه.
وأوّرد القرآن الكريم الفحص العلمي للخيل، فمن الثابت أن أصول الطب البيطري تُقرّر أنه لاختيار صلاحية الخيل ومعرفة صحتها والوقوف على سلامتها أولاً فحصها ظاهريّاً شكلاً ومنظرًا، ثم تُجبر على العدوّ لشوط كبير على قدر استطاعتها مع مراقبتها أثناء العدوّ لتظهر سلامة أجزائها، خاصةً السيقان والأرجل ومدى تناسقها مع باقي أجزاء الجسم، وبعد شوط العدوّ هذا يُقاس نبض الخيل عن طريق الشريان تحت الفكي والصدغي والكعبري الموجود في عنق الحصان، مع فحص ساقه بدقة بعد المجهود الذي بذله أثناء العدو ليُعرف ما وصل إليه، ومدى طاقة الساق وتناسقها. وهذا ما قرّره القرآن الكريم فيما حكاه وقرّره عن سليمان بن داوود عليها السلام، من أنه كان يقوم بفحص خيوله التي أعدّها للدفاع عن دين الله تعالى ووطنه وأهل ديانته في قوله تعالى: "ووهبنا لداوودَ سُليمان نِعْمَ العبدُ إنَّهُ أَوّاب. إذ عُرضَ عليه بالعشيّ الصَّافنات الجِيَادُ. فقال إنَّي أحببتُ حُبَّ الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب. ردُّوها عليَّ فطفق مسحًا بالسُّوقِ والأعْنَاقِ" (ص؛ 30 : 33).
وهنا يوضِّح القرآن كيفية الفحص العلمي للخيل، وهي أولاً: يقوم باستعراضها، ثم يأمر بأن تجرى إلى أبعد شوط حتى تتوارى بالحجاب أي حتى لا يدركها البصر، ثم يأمر بردها عليه مباشرة ليتضاعف جهدها، وبوصولها إليه يقوم بفحص شريانها للوقوف على نبضها، ثم يأخذ بفحص سوقها فيتعرّف على حالتها بعد هذا الجهد وتأثيره عليها.
وفي قوله تعالى: "والعاديات ضبحا" (العاديات: 1) فهي دعوة للنظر في الخيل حال جريها، ودراسة كيف تأخذ شهيقها وتُخرج زفيرها مع سرعتها الفائقة.
وقد دعا القرآن أيضًا إلى دراسة الإبل في قوله تعالى: "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت" (الغاشية: 17)، فهي دعوة للإنسان إلى دراسة الإبل وما فيها من روائع خلق الله تعالى وجميل صنعه.
ومن الحقائق العلمية التي أوّردها القرآن الكريم، تحريمه أكل الميتة والدم ولحم الخنزير في قوله جل وعلا: "إنما حُرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهلَّ لغير الله به" (النحل: 115). فلقد توصّل العلم الحديث بعد استخدام أجهزة الفحص والتحاليل والتقديرات الدقيقة وأجهزة الإشعاعات أن الحيوان إذا مات دون أن يُذبح (أي موت عن غير ذبح)، فإنه يموت بسبب مرض تستمر جراثيمه وميكروباته في التبريد "الثلاجة" أو إنضاجًا بالحرارة "الطبخ بالنار"، بحيث لو تناول الإنسان أي كمية من لحم الحيوان الميت لأصابته هذه الجراثيم والميكروبات فورًا، كما ثبت أن الدم وهو سائل الحياة للحيوان، توجد فيه إفرازات سامّة يصبها فيه جسم الحيوان من جميع أجهزة جسده مهما كان الحيوان سلميًا. وأما لحم الخنزير فقد ثبت علميّاً أنه يُصاب ببعض الديدان الخطيرة التي تنتقل منه إلى الإنسان، وهي تُغلِّف نفسها داخل لحم الخنزير بحويصلات واقية تكون في حالة سكون إلى أن يتناولها الإنسان، فتأتي عصارة المعدة فتذيب الأكياس التي تتحوّصل فيها الديدان وتخرج منها لتتعلق بالأمعاء عن طريق خطاطيف في فمها، وتتغذى على غذاء الإنسان، ولا يمكن التخلص منها، كما يوجد في لحم الخنزير أنواع أخرى من البكتريا والجراثيم تصيب أجهزة الإنسان، ثم أثبت العلم أن شحم الخنزير وهو يتخلل لحمه، يسبب ترسبات في كِلى الإنسان ينشأ عنها حصى تصيبها. وتشير دراسات وأبحاث علميه قامت بها المعامل الألمانية لأبحاث الغذاء إلى أن لحم الخنزير يحتوى على نمط من الأحماض الأمينية تسبب الإصابة بمرض السرطان.
وبالإضافة إلى كلام الوحي المنزَّل من الخالق عز وجل تأتي السنة النبوية الشريفة لتؤكد وتحث المسلمين على الاهتمام بالحيوان ودراسته. فالسنة النبوية بها كثيرًا من الأحاديث التي تدل على اهتمام ووعي الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الشئون، ولا أدلَّ على ذلك من الأحاديث التي تفيد علوم الوراثة والتهجين، ففي الحديث أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني اتخذت غنمًا أبتغي نسلها ورسْلها – أي لبنها- وأنها لا تنمو فقال وما ألوانها قالت سود فقال عفرى (وهو من عفرى أي البياض). وفي حديث آخر سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، قال: هل لك من إبل؟ قال: هي أن يكون نزعه عرق أوّرق؟ قال: نعم. قال فأنَّي له ذلك؟ قال: هي أن يكون نزعه عرق قال وهذا عسى أن يكون نزعة عرق. وهذا ما كشفت عنه أبحاث مندل ولا مارك وغيرهم في علوم الوراثة.
ولقد اهتم المصطفى صلى الله عليه وسلم بالخيل اهتمامًا كبيرًا وحثَّ على تربيته واقتناءه. هذا بالإضافة إلى وجود أحاديث تشير إلى الرفق بالحيوان، فمثلاً كما في سنن النسائي عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قتل عصفورًا عبثًا، عرج إلى الله يقول: يارب أن فلانًا قتلني عبثًا ولم يقتلني لمنفعة.
وممّا تقدم تتضح بعض توجيهات القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة في مجال علم الحيوان والطب البيطري، فلقد أراد الله عز وجل بهذه التوجيهات والتوضيحات المذكورة في القرآن بالإضافة إلى أحاديث حبيبه المصطفى أن تكون مبادئ وأساسيات لعمل دراسات وأبحاث متعمقة في هذا المجال (كغيره من المجالات الأخرى) تصل إلى نتائج تفيد البشرية جميعًا.
فإن الإسلام قد عنيّ بالرفق بالحيوان وعلاجه وتغذيته ونهانا عن عدم تحميله ما لا طاقة له به أو تعذيبه، ومنع قتله إلا لضرورة، وحرم وشمه أو جذع أنفه أو وخزه بآلة حادة.
وقد ظهر في العصور الإسلامية ما يسمى "الحسبة" (*) فمن ضمن الأعمال المُكلف بها المحتسب مراقبة أصحاب المهن الطبية (أطباء – بياطرة – صيادلة) حيث كان يوجد نظام أشبه بقوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية تحكم وتقيّد من يتولى هذه الأعمال، فكان يجب على الشخص الذي يريد تولي مهنة الطب أو البيطرة أو الصيدلة أن يجتاز اختبارات معينة على يد عالم، وذلك لكي تتأكد صلاحيته للمهنة المتقدم إليها، وكان المحتسب ينظم هذه الأمور ويراقبها ويحاسب المخطئ. وقد تحدث عبد الرحمان بن النصر الشيرزي في كتابه نهاية الرتبة في طلب الحسبه عن الطب البيطري فقال (البيطرة علمٌ حايل سطرته الفلاسفة في كتبهم ووضعوا فيها تصانيف كثيرة، وهي أصعب علاجًا من أمراض الآدميين، لأن الدواب ليس لها نطق تعبِّر به عما تجد من المرض والألم، وإنما يستدل على عللها بالجس والنظر إلاّ من له دين يصده عن التهجم على الدواب بفصد أو قطع أو كي، وما أشبه ذلك بغير مخبرة – أي بغير خبرة- فيؤدى إلى هلاك الدابة أو عطبها).
وهناك أمر هام ألا وهو أن بعض العلماء أرجعوا أصل كلمة بيطرة من الكلمة اليونانية "Hippiatos" وكلمة بيطري تعني في اللغات الأوربية الحديثة "Veterinary" أو "فيترنري"، وقد ذكر الدكتور عادل السيد أحمد أن هذه الكلمة من أصل عربي حيث جاءت من "بيطار" وتحرّفت إلى "فيتار" ثم إلى "فيترنري" "Veterinary".
ولقد ذكر حاجى خليفه أن العرب في صدر الإسلام لم يعتنوا بشيء من العلوم إلا باللغة العربية والشريعة الإسلامية وبصناعة الطب، بحيث كان اهتمامهم باللغة والشريعة لصيانة قواعد الإسلام وعقائد أهله، أما اهتمامهم بالطب لأهميتها واحتياج الناس إليها وكانت هذه المهنة موجودة عند أفراد منهم.
وذكر أيضًا في موضع آخر أن المِلّة الإسلامية – أو الخلافة الإسلامية- لما اتسع مُلكها درست علوم الأوّلين بنبوّتها وكُبتها، وحينئذٍ قام المسلمون بتصيير علومهم الشرعية إلى صناعة بعد أن كانت نقلاً في عصر صدر الإسلام، بالإضافة إلى أنهم تشوّقوا إلى علوم الأمم الأخرى فنقلوها بالترجمة إلى علومهم وبقيت تلك الدفاتر لتي بُلغة هذه الأمم نسيًا منسيًا وأصبحت العلوم كلها بلغة العرب. ومن ضمن هذه العلوم البيطرة وعلوم الحيوان اللتان كان للعرب اهتمامًا بهما في الجاهلية (كما سبق القول)، وقد أضاف إليهم ما ترجُم كثيرًا حيث قام المسلمون بدراستها جيدًا، ثم توصّلوا إلى درجة كبيرة من التطور في هذا الميدان حيث عنوا بأمراض الدواب، والمظهر الخارجي لها، والصفات العامة المميزة لها، وعنوا أيضًا بدراسة الوظائف والأعضاء الخارجية والعيوب الوراثية خاصة في الخيل.
ففي العصر الأموي (41 – 132ه/ 662 – 750م): كانت المعارف الموروثة منذ العصر الجاهلي تمشى جنبًا إلى جنب مع المعارف الواردة من الأمم الأخرى، ومن الملاحظ أن المسلمون في العصر الأموي كان اهتمامهم بالعلوم الدنيوية قليلاً وأكثر من اشتغل بها من غير المسلمين، وذلك بالمقارنة مع العلوم الدينية كالقرآن الكريم والسنة النبوية، والتي كانت أساس الحركة العلمية حينئذ، وأكثر من اشتغل بها من المسلمين.
وقد بدأت حركة الترجمة للكتب المتعلقة بتطبيق العلوم تُتَرجم منذ عهد مبكر خلال هذا العصر. فقد جاء أن ملك الصين أهدى إلى الخليفة معاوية بن أبي سفيان -أول خلفاء بني أمية- كتابًا من سرائر علومهم، وورث هذا الكتاب خالد بن يزيد، حيث ذُكر أن أول نقل حدث في الإسلام كان على يد خالد، والذي نقل له هو "أصطفين الإسكندراني"، وكان هذا النقل من اللغة اليونانية والقبطية إلى العربية، وكان أهم ما يُعني به خالد هو الكيمياء والتي كانت تسمى "الصنعة"، بالإضافة إلى علم النجوم، حيث كانت موضوعات الترجمة في العصر الأموي مقصورة على العلوم العلمية كالكيمياء والطب والنجوم، ولم يتعد ذلك إلى العلوم العقلية كالمنطق والفلسفة والهندسة، وما إليها مما كان موجودًا في الدولة العباسية بعد ذلك.
وفي وقت ضيق جدًا وبجانب الترجمة في العصر الأموي تأثر المسلمون بالمدارس السابقة على الإسلام والمتخصصة في العلوم الطبيعية ولاسيما مدرسة الطب في الإسكندرية، وقد استطاع علماء من المسلمين أن يبرزوا في مجال علم الحيوان، والشاهد على ذلك هو الغضريف بن قدامه الغساني الذي كان صاحب ضواري (أي مدرب وحوش وطير وغير ذلك) في عهد هشام بن عبد الملك، وكذلك في عهد الوليد بن يزيد بعد وفاة هشام، ثم عاش إلى أن أدرك مُلك بن العباس، وكان حيًا أيام الرشيد، وقد اشترك في تأليف كتاب جامع عن "طب الطيور" (#)، ولم يكن الغضريف بن قدامة بأبحاثه وإنتاجه في مجال علم الحيوان هو الشاهد الوحيد والدلالة المنفردة على مدى تطور هذه العلوم وازدهارها خلال العصر الأموي، وإنما نجد عالمًا آخر كان في الأصل قاضيًا وهو "أبو وائله إياس بن معاوية المزني الفقيه"، والذي ضُرب المثل بذكائه الخارق، فمثلاً استطاع أن يثبت إمكانية تهجين أنواع من السمك، وهو ما أثبته العلم الحديث في وقتنا الحالي بعد وفاة هذا الرجل بأكثر من أربعة عشر قرنًا، وقد عارضه الجاحظ في هذا الأمر بالإضافة إلى أمور أخرى، ومن ضمن ما توصل إليه علماء هذا العصر هو تفقيس البيض الاصطناعي.
وبالإضافة إلى ما سبق أنه كان في هذا العهد اهتمامًا بالثروة الحيوانية للاستفادة منها في عدة أمور منها حرث الأراضي الزراعية، ومن الدلائل على ذلك أن الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق أولى عناية بالغة بتربية البقر، وكان يوصى بعدم ذبحها بهدف زيادة أعداها للاستفادة منها في أعمال الحرث والري، بالإضافة إلى الاستفادة من إنتاجها من الألبان.
ومن الملاحظ أن المصادر لم تتحدث عن البيطرة والبياطرة في هذا العصر إلا القليل النادر ولا يوجد مخطوطات تخص علم الطب البيطري ترجع إلى هذا العصر، فقد وصلتنا حكاية ورد فيها اسم بيطار في عهد الخليفة هشام بن عبد الملك، حيث كان يشرف يومًا على استعراض عسكري لجنوده، وكان هشام أحول العين فنفر حصان لرجل من أهل حمص حين رأي هشامًا، فقال هشام "ويلك، تركب مثل هذا الفرس؟ فإن نفر بك في حرب صرعك وهلكت" فقال الحمصي: "والرحمان ما هذه عادته، ولكنه شبهك بغزوان البيطار". قال الرواة: وكان غزوان البيطار نصرانيًا ببلاد حمص كأنه هشام في حوله وكشفته.
فكان من المعتاد في هذا العصر من قبل الخلفاء وكذلك الولاة بذل جهودًا كبيرة في العناية بكتائب الفرسان فكانوا يعرضون الخيل كما يعرضون الجند، وينقصون عطاء كل فارس أهزلَ فرسه أو أهمل العناية به.
وقد ذكر ابن الجوزي: فى أخبار الحمقى والمغفلين أن البيطرة كانت معروفة في العصر الأموي، وكان البياطرة يعالجون الخيول لتجهيزها للجهاد، والدخول في حلبات السباق.
ويُقال عن الخليفة هشام بن عبد الملك أنه اهتم بالخيل والفروسية اهتمامًا كبيرًا، وهو أول من أقام حلبات السباق من خلفاء بني أمية كما اهتم بتحسين نسل هذه الخيول، وكذلك الوليد الثاني كان محبًا للخيل فجمع منها عددًا كبيرًا، وأقام حلبة للخيل كان يشهد السباقات فيها مع عددًا من الأمراء وكبار رجال الدولة، وكانت (رصافة الوليد) مسرحًا لتلك السباقات.
وفي العصر العباسي (&): استمرت حركة النقل والترجمة والتي تعتبر أكبر حركة ترجمة في التاريخ الإنساني كله من شتى لغات أهل الأرض لأمهات الكتب العلمية والفلسفية، ولم يصادر الخلفاء العباسيون أي فكر، فهذه الحرية الفكرية قد أثرت العلوم العربية ونهضت بها.
ومن أهم خلفاء بني العباسي الذين اهتموا بالترجمة وبالعلم والعلماء أبي جعفر المنصور، وهارون الرشيد، والمأمون، والمتوكل، فكان أبو جعفر المنصور الخليفة الثاني لبني العباسي أول من عنيّ منهم بالعلوم، فقد قيل عنه وكذلك عن هارون الرشيد؛ أنهما شجعا المترجمين على ترجمة علوم الإغريق والنبش عنها في بلاد الروم والشام وفارس والهند ومصر، فمعظمها كانت مندثرة ومعرضة للضياع والانقراض، وكان قادة الفتوحات الإسلامية حينئذ وقبل ذلك يبادلون الأسرى بالكتب، وكانوا يضعون في بنود المعاهدات والصلح بندًا ينص على دفع الجزية في نظير هدية من الكتب والسماح للمسلمين البحث عن الكتب الإغريقية، وكانوا يطلبون من البيزنطيين البحث عن كتاب معين جاء ذكره في المخطوطات، ويسألونهم البحث عنه في مقبرة صاحبه، حيث كانت العديد من الكتب الإغريقية قد دفنت مع علمائها في مقابرهم، وكان من ثمار الغارات المتوالية على بلاد الروم وخاصة في أيام هارون الرشيد؛ أن غنم المسلمون طائفة من المخطوطات اليونانية كان معظمها في عمورية وأنقرة.
وقد ذُكر عن الخليفة المهدي الذي كان مولعًا بالصيد أن ميخائيل بن ليون عظيم الروم أهداه كتابًا كان لأوائلهم في ضوارى الطير، فأمر المهدي بإحضار أدهم بن محروز (كان عالم في البيزره)، وأمر أن يكتب كتابًا جامعًا لمقالات الحكماء والترك والفلاسفة والروم مع مقارنتها بتجارب العرب، فألف أدهم كتاب (طب الطيور) بالاشتراك مع الغضريف بن قدامة.
ولما أفضت الخلافة إلى المأمون تمم ما بدأه أجداده وآبائه فأقبل على العلم وداخل ملوك الروم وسألهم وصلة ما لديهم من كتب الفلاسفة فبعثوا إليه منها بما حضرهم من كتب أفلاطون وأرسطو وأبقراط وجالينيوس وإقليدس وبطليموس وغيرهم، وأحضر لها مهرة المترجمين فترجموا له، وقد أنشأ المأمون دارًا خاصة بالترجمة، وكان المترجمون يؤجّرون بسخاء، وقد يُعطى المترجم مثقال وزن الكتاب المترجم ذهبًا، ومن هؤلاء المترجمين ابن البطريق (الذي ترجم أيام المنصور)، والحجاج بن يوسف بن مطر (أيام المأمون)، وباسيل (الذي نقل لطاهر بن الحسين)، ويحيى بن عدى الفيلسوف (وله ما يزيد على 106 من المؤلفات والرسائل والترجمات)، ويعقوب بن إسحاق الكندي، ثابت بن قرة الحراني، وإبراهيم بن عبد الله، وآل بختيشوع، وآل ما سرجويه، وآل نوبخت، وآل مُرّة، ويحيى بن عديّ، ويوحنا البطريق (مولى المأمون) والذي ترجم كتب كثيرة من كتب أرسطو، وحنين بن إسحاق، وكان جميعهم من المسيحيين العارفين بالسريانية والعربية واليونانية وبعضهم من الفرس ومعظمهم من رجال القرن الثاني حتى أواسط القرن الثالث للهجرة. وكان المسلمون بعد مرحلة الترجمة يعكفون على تلك المخطوطات الثمينة يدرسونها وينقونها مما شابها من الهرطقة والكفر والخرافات ويخضعونها للمفاهيم القرآنية والعقيدة الإسلامية، فلقد أنشئ المأمون ببغداد بيت الحكمة ليكون أكاديمية للبحث العلمي في شتى المجالات تحت رعايته الشخصية.
ولقد حاول كثير من الباحثين المحدثين البحث عن المؤسسات التعليمية التي عنيت بتدريس العلوم غير الدينية مثل الفلسفية والرياضيات والعلوم الطبيعية، ومنها علم الحيوان والكيمياء ونحوها، فأشاروا إلى أن بيت الحكمة -السالف ذكره- ودور العلم وأسواق الوراقين والمستشفيات كانت هي المعاهد المَعنَّية بتدريس هذه العلوم، فلا توجد نصوص صريحة تشير إلى وجود معاهد متخصصة لتعليم هذه العلوم كما هو الحال في العلوم الدينية، وكان المعروف والثابت دائمًا أن الطالب كان يقصد صاحب العلم أينما كان ليأخذ عنه علمه أو صناعته، وينطبق هذا بالتأكيد على البيطرة وعلم الحيوان.
ولقد أثَّر عامليّ الإقبال على الترجمة والاهتمام بالعلم والعلماء (خاصةً الأطباء) تأثيرًا كبيرًا في إثراء وتطوير علم الحيوان والبيطرة، فمن الأعمال التي تُرجمت في هذا الميدان، كتاب ألفه حكيم من حكماء الروم في علاج سائر الدواب، وكتاب نقله إسحاق بن علي بن سليمان للفُرس في علاج سائر الدواب والخيل والبغال والبقر والغنم والإبل ومعرفة ثمنها وشومها، وكتاب في البيطرة للفرس، وكتاب في البيطرة للروم، وهذا بالإضافة إلى ترجمة أعمال أشهر وأهم علماء اليونان والرومان مثل أبقراط وأرسطوطاليس هرمس وجالينيوس فهم أعظم من أهتم بعمل مصنفات للحيوان في العصور القديمة.
ولقد ظهر في هذا العصر عدد كبير من العلماء (العرب والمسلمين) الذي صنفوا للحيوان والبيطرة فمنهم من كان متخصصًا في علم الحيوان بصفة عامة مثل إبراهيم بن داحه والذي جاء ذكره في كتاب الحيوان للجاحظ، و ابو الحسن علي بن محمد بن شقيب المدائني ومن أثاره كتاب علم الحيوان، ومنهم من كان موسوعيًا مثل إبراهيم النظام أبو إسحاق وهو أستاذ الجاحظ وقد سلك نهج التجربة خاصةً في بحوثه في علم الحيوان، وأحمد الباهلي أبو النصر ومن آثاره كتاب الإبل والخيل وكتاب الطير واللبأ($) واللبن، وعبد الله بن مسلم الدينوري المعروف بابن قتيبة ومن آثاره كتاب في الخيل، وعبد الملك بن قرُيب بن علي بن أصمع الباهلي المعروف بالأصمعي ومن آثاره كتاب الإبل وكتاب الزيّ واللجام والنعال، وابو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ومن آثاره كتاب الحيوان، ويعقوب الكندي أبو يوسف (عامر الرشيد) ومن آثاره الخيل والبيطرة، ومنهم من اشتهر بالتخصص في البيطرة مثل أحمد بن الأحنف (الذي عاصر الفاطميين في مصر والدولة السلجوقية) ومن آثاره مختصر البيطرة (لوحة 1)، وأبو حزام الحنبلي ومن آثاره الفروسية والبيطرة، ومنهم من اشتهر بالطب مثل ابن سينا ومن آثاره الحيوان، وأحمد الأشعت أبو جعفر (والذي عاصر بداية حكم الفاطميين لمصر) ومن آثاره كتاب في الحيوان، وعبد الواحد بن محمد الجوّزاجاني (عاصر الفاطميين والدولة البويهية) وهو من تلاميذ ابن سينا ومن آثاره كتاب الحيوان، وعبد الله بن بختيشوع (عاصر الفاطميين والدولة السلجوقية) ومن آثاره عقد الجمان في طبائع الإنسان والحيوان.
وتوجد الكثير من الدلائل على الاهتمام بالبيطرة والحيوانات في هذا العصر ومنها؛ أنه كان يرافق الجيش العباسي – خاصةً في عصر القوة- مستشفى ميداني، تجمع العديد من الأطباء والممرضين وكانوا مزودين بالأدوية المختلفة ونقالات للجرحى، وكان معهم جنبًا إلى جنب البياطرة والمضمدون.
هذا بالإضافة أنه أُشترِط على الفارس أن يكون عارفًا بالخيل وعلى دراية بشيء من البيطرة هذا بجانب معرفته بالفروسية وأساليب القتال.
وازدادت أهمية الفرسان في هذا العصر بشكل كبير خاصةً عندما اعتمد العباسيون على الفرسان الأتراك الذين وصفهم الجاحظ بقوله: "التركي هو الراعي، وهو السائس، وهو الرائض، وهو البيطار، وهو النخّاس، وهو الفارس، وأنه يصيب بسهمه وهو مدير كما يصيب به وهو مقبل".
وكان في زمن الخليفة المنصور (136-158هـ) قد أُستحدث ديوانًا يسمى ديوان النفقات، وكان يختص بنفقات دار الخلافة ونفقات الدواوين المركزية وكذلك المصالح العامة ببغداد، وكان يتألف من عدة مجالس منها مجلس الكراع الذي عُهد إليه أمر علوفة الحيوانات المختلفة في دار الخلافة وعلاجها، ورواتب المشرفين عليها.
فقد عنى الخلفاء العباسيون باقتناء الحيوانات المختلفة في دار الخلافة، وقيل أن هارون الرشيد أهدى الإمبراطور شارلمان فيلاً كان موضع إعجاب أوربا، وذُكر عن الخليفة أبو جعفر المنصور أنه اتخذ الفيّلة مركبًا للحج، وذُكر أيضًا عن الخليفة المأمون أنه كان يقتنى طرائف الخيل والطير والحيوان.
ومن دلائل عشق الخلفاء للخيل أنه يُقال أن الخليفة المهدي هو أول خلفاء بني العباس الذي أجرى حلبة لسباق الخيل بين يديه في محفل كبير من كبراء دولته.
وذكر ابن العديم أنه كان بعض الصالحين في القرن (3هـ) في مدينة طرطوس بالثغور الشامية يقفون الخيول للجهاد، ويستأجرون لها البياطرة الذين يعالجونها ويتابعون حالتها استعدادًا للجهاد ضد الروم عند النفير والغزو.
وقد كان لمجال تدريب الخيول الأهمية العظمى في ذلك العصر خاصةً في فترة القوة، وكانت الرقة والشماسية هي الأماكن التي يتم فيها تدريب الخيول فكانت تلك الخيول يُدفع بها إلى حلقات السباق، مما كان له الأثر الكبير في تحسين إعدادها للمشاركة في القتال، وبالتأكيد بُنيت الإسطبلات في الرقة والشماسية لرعاية هذه الخيول.
ومما لاشك فيه أن العصر العباسي كان له فضلاً كبيرًا في تطوّر ميدان علم الحيوان والبيطرة، وكذلك في تطور باقي أنواع العلوم، ومن المدهش أنه من أهم العوامل التي ساهمت في إثراء هذه العلوم بجانب العاملين السابقين -الترجمة واهتمام الخلفاء- هي التغيرات السياسية والانشقاقات التي حدثت في هذا العصر وظهور الدويلات الإسلامية المختلفة، والتي بدأت منذ عصر القوة، مثل استقلال عبد الرحمن بن معاوية بالأندلس، وقيام عبد الرحمن بن حبيب عامل أفريقية بالثوّرة على الأمويين، واعتراف العباسيون به أميرًا مستقلاً، وقيام دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى، والأغالبة بتونس، والطاهريين في إيران، واتساع هذه الظاهرة في القرن (3هـ) مع ظهور الصفاريون بسجستان، والسامانيون في بلاد ما وراء النهر، والغزنويون في أفغانستان وبلاد الهند، والطولونيون والأخشيديون في مصر، وكذلك ظهور البويهيون و بعدهم السلاجقة في القرنين الرابع والخامس الهجريين. فقد لعب أمراء وحكام هذه الدويلات دورًا هامًا في تشجيع الحركة العلمية بقدر ما يستطيعون.
ومن المعروف أن القرن (3هـ) يمثل بداية النهضة الفكرية التي أدت إلى الازدهار الحضاري في القرن (4هـ)، وذلك بعد مرحلة الترجمة –السابق ذكرها- والتي قطعت أشواطًا في طريق التقدم في شتى مجالات العلوم.
وقد اهتم أمراء هذه الدويلات بتربية الحيوانات وبيطرتها وعلى سبيل المثال في الدولة الطولونية؛ قام أحمد بن طولون ببناء إسطبلات عظيمة لكرائم الجياد، وكان لرجاله إسطبلاتهم الخاصة، وقام بعده ابنه خمارويه بتوسيع الإسطبلات لكثرة دوابه وبنيّ لكل صنف من الدواب إسطبلاً: للجمال والفهود والنمور والفيلة والزرافات، هذا بالإضافة إلى اتخاذه دارًا للسباع، وعمل فيها بيوتًا، لكل سبع بيته الخاص، وبنيّ للطيور بُرجًا من خشب الساج وبلَّط أرضه وجعل فيها مجاري الماء وأطلق فيه جميع أنواع الطيور.
ومن دلائل حب واهتمام الطولونيين للخيل ورياضتها هو إنشاء ميدانًا لسباق الخيل، وقام أحمد بن طولون ببناء منظرًا أمام هذا الميدان ليشاهد السباق بنفسه، وكان لرجاله مناظرهم الخاصة، وبلغ هذا الاهتمام أقصاه في عهد خمارويه حتى أصبحت هذه الحلبات في عهده تقوم مقام الأعياد.
ولقد ساهمت الثروة الحيوانية من ماشية وأغنام وماعز وغيرها في هذا العصر سواء في العراق أو في غيرها من الدويلات القائمة في توفير المواد اللازمة في الصناعة مثل صناعة الرِّق(@) والجلود ودبغها وصناعة المنسوجات الصوفية والصناعات الغذائية القائمة على الألبان وكذلك في أعمال الزراعة والنقل، فكان سواد الموصل مشهورًا في صناعة الألبان والجبن والعسل واشتهرت مدينة البصرة بصناعة الأحذية والنعال من جلود الحيوانات.
وكان الأدارسة بالمغرب الأقصى يولّوا عناية فائقة بالثروة الحيوانية للاعتماد عليها في أعمال الزراعة والنقل والاستفادة من لحومها وألبانها وأصوافها وجلودها، فضلاً عن استغلالها في توفير الطاقة اللازمة لتحريك النواعير وإدارة الطواحين، حيث كان بفاس خلال القرن (3هـ) ثلاثة آلاف رحى لطحن الحبوب تديرها الحيوانات...........
الحواشي
(*) : المقصود بالحسبة عند الفقهاء هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وضبط أمور العامة والخاصة بميزان الشرع الحنيف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم دعائم الأمة الإسلامية، وهو من الأمور التي ميزتها عن غيرها من الأمم.
قال تعالى: "كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر
وتؤمنون بالله". (آل عمران: 110).
(#) : مخطوط محفوظ في مكتبة طوبكابي بوسراي باستانبول تحت رقم (7399.A.2016) منه نسخة مصورة في دارة الكتب المصرية، برقم 748طب.
(&) : الخلافة العباسية في العراق استمرت نحو خمسة قرون (132-656هـ / 750-1258م) وتنقسم إلى أربع عصور:
- الأول (132-232هـ / 750-847م) وهو عصر القوة، وعصر نفوذ الفرس.
- الثاني (232-334هـ / 847-945م) وفيه النفوذ التركي وبروز علامات الضعف السياسي.
- الثالث (334-447هـ / 945-1055م) وفيه النفوذ البويهي وحدوث التدهور السياسي للخلافة.
- الرابع (447-656هـ / 1055-1258م) وفيه النفوذ السلجوقي وهو عصر الانهيار للخلافة.
($) : اللبأ: وهو ما يُجلب في وقت الولادة يرطب البدن ويخصبه أو هو البن في النتاج.
(@) : الرق : يُتخذ من معدة الحيوان لاسيما الماشية
المصادر والمراجع
أولا : المصادر
القرآن الكريم
1- ابن الكلبي، أنساب الخيل في الجاهلية والإسلام وأخبارها، تحقيق أحمد زكي باشا، ط2، القاهرة 1995م.
2- (ابن تغري بردي)، جمال الدين أبي المحاسن يوسف الأتابكي (813-874هـ)، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، دار الكتب المصرية، ط2، ج3، القاهرة 2005م.
3- (الجاحظ)، أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب، الحيوان، مج1، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة 1938م.
4- حاجي خليفه، كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، تحقيق محمد شرف الدين ياتقايا ورفعة بيلكه الكليسي، مج1، 2، القاهرة 1941م.
5- (النديم)، أبى الفرج محمد بن أبي يعقوب إسحاق (ت: 380هـ)، الفهرست، تحقيق يوسف علي الطويل، بيروت 1960م.
ثانيا : المراجع والأبحاث والمقالات
1- أحمد محمد عوف، عبقرية الحضارة الإسلامية، (مقالة علمية) عن www.arwikibooks.org..
2- براك عبيد عوض المطيري، الأوضاع الحضارية في بلاد الشام في القرن (3هـ): رسالة دكتوراه (غير منشورة)، جامعة القاهرة 2007م.
3- البستاني (دائرة المعارف)، مج5، بيروت 1958.
4- جميل نخلة المدور: حضارة الإسلام في دار السلام، القاهرة، 1935م.
5- حسن أحمد محمود: حضارة مصر الإسلامية في العصر الطولوني (254-292هـ / 868-1905م)، القاهرة 2004م.
6- خالد حسين محمود: حضارة مدينة فاس في عصر الادارسة (رسالة ماجستير)، جامعة القاهرة 2000م.
7- راضي عبد الله عبد الحليم، الجيش والأسطول في العصر العباسي الأول (132هـ-232هـ)، القاهرة 1995م.
8- زهير حميدان، أعلام الحضارة العربية والإسلامية، جـ1، دمشق 1995م.
9- شاكر مصطفى، موسوعة دول العالم الإسلامي ورجالها. ط1، جـ1،2، بيروت 1993م.
10- عادل السيد أحمد، الإسلام والطب البيطري، القاهرة 1987م.
11- لطف الله قاري، نشأة العلوم الطبيعية عند المسلمين في العصر الأموي، الرياض 1986م.
12- مجموعة باحثين عراقيين، حضارة العراق، جـ5، 6، 8، بغداد 1980م.
13- محمد بن إبراهيم ساعد الأنصاري: إرشاد القاصد إلى أنس المقاصد، القاهرة 1900م.
14- محمد محمود عبد الله، عالم الحيوان بين العلم والقرآن، ط1، القاهرة 1998م.
15- محمد الطبيب النجار، محمد مصطفى النجار، الدولة الأموية والعباسية وحضارتهما، ط1، القاهرة 1967م.
16- محمد علي الباز، الحسبة في المجال الطبي ونظرة في كتاب نهاية الرتبة في مجال الحسبة. مقالة علمية عن : www.nooran.org.
17- وليم نظير: الزراعة في مصر الإسلامية من عهد الخلفاء الراشدين إلى عهد الثورة، القاهرة، 1969م.