إن الإشكالية الحقوقية بالمغرب لا زالت متشعّبة و تخترق كل مجالات الحياة في المجتمع، ومرتبطة مع طبيعة النظام السياسي والتوجه الاقتصادي المعتمد و طبيعة علاقات المغرب مع محيطه الاقليمي والقاري والدولي. وعمومًا يمكن القول أن معاينة الواقع في المجال الحقوقي تبين بجلاء أن المغرب مازال يعيش منظومة من المتناقضات الصارخة، أو على الأقل مستعصية الفهم. فلازلنا نعاين مثلا أن "عبد الله زعزع" يجهر بميوله الجمهورية وهو مواطن بالمملكة المغربية، ويصرّح بمواقفه في هذا الصدد جماهيريًا وبكل حرية دون أن يتّبع ذلك أي إجراء أمني أو مساءلة واضحة.
لكننا نعاين بالمقابل استمرار عدم اعتراف الحكومة المغربية بجمعية المعطلين، الجمعية المغربية لحاملي الشهادات المعطلين، وتكريس استمرار إمطارهم الممنهج بالهروات الغليظة أمام ساحة البرلمان وفي الساحات العمومية، لاسيما في الرباط وعلى أنظار الملأ.
كما نعاين الحديث عن العلمانية والحداثة والتحديث وكذلك تقبيل يد الملك تعبيرًا عن الوفاء والإخلاص في خدمة الوطن. علمًا أن البعض طالب بإلغائه، ولقيت هذه الدعوة تجاوبا كبيرا من طرف الكثير من المغاربة، إلا أنها لقيت معارضة شديدة اللهجة من بعض دوائر صنع القرار التي مازالت تعتبر تقبيل اليد يدخل ضمن ثقافة تضرب بجدورها في أعماق التاريخ المغربي. وللإشارة فإن العاهل السعودي ألغى تقبيل يده أو يد أحد أفراد العائلة المالكة باعتبار أنها ممارسة لا تقبلها النفس، إضافة إلى كونها تؤدي إلى الانحناء وهو أمر مخالف لشرع الله حسب قوله.
وعمومًا إن الحديث عن الواقع الحقوقي بالمغرب يرتبط بالواقع الاقتصادي والاجتماعي، لأنه هو الركن الذي يوضح الواقع الحقوقي على أرض الواقع المعيش بعيًدا عن الخطابات الرسمية والوصلات الدعائية التي لا تقنع أحدا.
في الواقع إن التساؤلات ذات العلاقة بالوضع بالمغرب ترعبني حقا لأنها تجعل مستقبل المغرب مفتوحا على جميع الاحتمالات وأتمنى أن أكون مخطئا في هذا التحليل.
فوضعية حقوق الانسان بالمغرب مرتبطة أشد الارتباط بالواقع الاجتماعي والاقتصادي، إذ لا مجال لاحترام الحقوق في وضعية تتميز بالتردي و الخصاص حتى ولو حضرت الإرادة لتحقيق ذلك. وعمومًا لازال الوضع بالمغرب يتميز بخصاص واضح في المجالات الاجتماعية بفعل الاعتناء بالاكراهات المالية و اللهث وراء الحفاظ على التوازنات المالية العامة بأي ثمن كأولوية الأولويات ولو دعا الأمر إلى التضحية بكل الباقي وهذا ما نصب "فتح الله والعلو" لخدمته منذ أن أصبح وزيرا للمالية بالرغم من أن كل الخطط و المنطلقات التي أثتت لمسؤوليته هذه تناقض بالتمام والكمال كل كتاباته سواءا كإقتصادي أو كمناضل متحزب سابقا وهذا ما لم يتمكن المغاربة من فهمه إطلاقا .
هذا في ظل غياب الشروط الحد الأدنى الضروري لتحقيق نسبة نمو اقتصادي تمكن من إعطاء انطلاقة لصيرورة التنمية الشاملة المستدامة. وفي ذات الوقت انكشف فيه وبشكل مفضوح عدم استجابة جملة من الآليات والقوانين (حتى المستحدثة منها) لمتطلبات الاقتصاد الوطني، بل وحتى لإمكانية أي تصور تنموي فعلي متراص واضح المعالم محدد الأهداف المقاصد. وهكذا فلا نحن حققنا النسبة المطلوبة من النمو الاقتصادي ولانحن استطعنا التخفيف من تزايد الفقر واستفحال البطالة و التصدي لانتشار السكن العشوائي وغير اللائق، ولا نحن شرعنا فعلا و فعليا في التغيير الجدري لمنظومة تعليمنا المهترئة ولو على الأقل بالتخفيف من مهزلة المزيد من تخريج العاطلين المعطلين وإنتاج وإعادة إنتاج البطالة المستدامة.
وها نحن على مشارف نهاية سنة 2005 ولازال السؤال مطروحا: إلى أين نحن سائرون؟ وهو مطروح بحدة أكثر من أي وقت مضى، إذ أن الحصيلة العامة في شموليتها- وفي هذا الصدد وجب التركيز على السلبيات اعتبارًا لكون أن الانتظارات كبيرة وكبيرة جدا- تفيد بأن هناك غياب مؤشرات مقنعة يطمئن إليها القلب. بل على العكس من ذلك بدأ يتضح كأن التاريخ يعيد نفسه بالمغرب
- قلق سياسي كبير
- تردي الأوضاع في مختلف المجالات
- آليات الإقصاء والتهميش لازالت مشتغلة
- معطلون لا حق لهم في الاعتراف بجمعيتهم
- ومصيرهم الدائم والمستدام هو الهراوات البوليسية في الساحات العمومية
- حكومة لا يعرف المواطن المغربي ماذا تفعل بالنسبة إليه
- قرارات جوهرية من صلب اختصاصاتها في المجال الاقتصادي والاجتماعي وحتى الاستراتيجي تتخذ بعيدًا عنها و بعيدًا عن ممثلي الشعب
- أحزاب سياسية تحتضر وأوضاع دائما في اتجاه التردي كل مرة بوتيرة أسرع وأوسع مدى من السابق
- ووجوه وشخصيات ارتبطت أسماؤها بكل ما هو غير محمود سواء بالمغرب أو دوليا لازالت جالسة على كراسيها الدوارة تُنهي وتأمُر كل في مجاله
- فئات واسعة طالها التهميش والإقصاء وعُطّلت طاقاتها رغما عنها
- آليات في جملة من القطاعات والمجالات تعطلت ولم تعد ذات جدوى
- سياسات وبرامج و خطط وإجراءات لم تفعل إلا المساهمة في المزيد من تردي الأوضاع وسوء الحال.
وبالتالي فلم نعد نواجه بالمغرب مشكلات ومعضلات ، وإنما أضحينا نجد أمامنا منظومات-مشاكل ومنظومات-معضلات وآليات تعيد إنتاج نفسها وفي كل مرة أوسع مدى من السابق. وعلى سبيل المثال لا الحصر، لم نعد بالمغرب نعيش معضلة الفقر وإنما أصبحنا نواجه منظومة التفقير بآليات خاصة بها، وهذا ما أطلق عليه البروفسور المهدي المنجرة "الفقرقراطية" ونفس الشيء بالنسبة للفساد، فقد تجاوزنا معضلة الفساد وأصبح الأمر يتعلق بالفسادقراطية وقس على ذلك الرضوخ والخوف والذل.
لذلك فلن تنفع لا قوانين جديدة ولا سياسات ولا خطط عادية للتصدي لهذا الواقع. والحجة على هذا هو أن مجمل خطط إصلاحات ومجمل النصوص القانونية والتدابير الإجرائية التي تمت بلورتها لمواجهة كل تلك المنظومات-المعضلات باءت بالفشل، لأنها تعاملت معها كمشكلات ومعضلات في حين أنها أضحت منظومات-مشكلات ومنظومات-معضلات وبالتالي فهي تستوجب ليس حلولا وإنما منظومات-حلول و منظومات-آليات تصحيحية جدرية وليس شكلية ومظهرية أو مرصودة لتحسين الصورة ليس إلا.
فهل يعقل التصدي للفقر بتوزيع المعونات ومنح الصدقات دون ربط الأمر بآليات منظومة توزيع الثروة والدخل ومنظومة منح الامتيازات، وما هذا إلا على سبيل المثال كذلك. و هل يعقل التصدي للبطالة بتوزيع رخص النقل أو احتلال الملك العمومي أو السماح بالتجارة المتجولة بدون مضايقة هنا وهناك دون التساؤل أيهما أفضل وأجدى، أن تستمر الدولة في أداء تعويضات طيطانيكية للوزراء السابقين حتى الذين لم يعمّروا بوزاراتهم إلا أياما معدودات وتخصيص رواتب لنواب الأمة تثقل كاهل الميزانية أم تخصيص هذه المبالغ لميزانية التجهيز والاستثمار تمويل أشغال عمومية كبرى و متوسطة أو صغرى محلية أو جهوية تساهم كصمام أمان لامتصاص جزء من البطالة في انتظار تحقيق نسبة من النمو الاقتصادي تسمح على الأقل بالحفاظ على نسبة البطالة كما هي عليه دون استفحال؟ و هذا مجرد مثال كذلك.
وتزداد الصورة تعقيدا إن أضفنا إلى هذه التحديات الداخلية، التحديات الخارجية (ملف الصحراء، الشراكة مع أوروبا، الموقف من السلام في الشرق الأوسط). فهل مثل هذا الوضع يسمح بتكريس احترام حقوق الانسان، لاسيما الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية، حتى و لو حضرت الارادة لتحقيق ذلك؟