لهذا العالم خاصرتان وسرَّة واحدة ، في يمينه «البلقان» ، وفي يسارهِ «قزوين» ، وفي المنتصف تقع «فلسطين» ، كان هذا المثلث الأخطر في العالم ماضياً ، منطقة الصراعات الإستراتيجية قديماً ، بوصفه مخزن غذاء العالم ، واليوم هو ذاته المثلث الأخطر في العالم حاضراً ، بوصفه مستودع الطاقة العالمي ، وفي الحالين ، احتفظ بالأهمية الستراتيجية البالغة ، كونه المتحكم بخطوط المواصلات والإتصال ، وسيضيف له المستقبل أهمية ضابط إيقاع السوق العالمي. تسببت الخاصرة اليمنى ، في أكثر حروب العالم دموية ، هما الحربان الكونيتان : الأولى والثانية ، فأدت إلى تغيير أساسي في بنية القوة الدولية ، ونتجت عنها ولادة ارتحال لمركز صناعة القرار الدولي ، ومركز تقرير الأمن والسلم الدوليين ، بينما تشي الخاصرة اليسرى هذه الأيام ، بإمكانية اندلاع الحرب الكونية الثالثة ، على ضوء التسخين غير العقلاني ، الذي تتبعه إدارة الجمهوري «بوش» الصغير ، والتي يلعب فيها نائبه الفاقد للتوازن ، ديك تشيني ، دور المحرِّض بشكل سافر.
قمة بحر قزوين الأخيرة ، بعيداً عن إعلان المحاصصة في ثروات قزوين ، والتي كانت العنوان العلني لهذا المؤتمر ، لم تستطع إخفاء الجانب الستراتيجي الآخر ، والكامن في قطع الطريق على المحاولات الأمريكية المحمومة ، لبدء لعبتها الخاصة في هذا الإقليم ، سواء بتركيع إيران سلماً ، أم بردعها حرباً ، وإلغاء جمهورية الصين الشعبية حضورها ، لمؤتمر برلين المقبل ، والذي من المفترض أن تتابع مناقشات ، الملف النووي الإيراني فيه ، ليس لسبب تقني محض كما تعللت به الصين ، بل إن بعد إعلان هذا المؤتمر دعمه لإيران ، والاتفاقات العديدة التي وقعها الرئيس بوتين ، وبالذات في مجال الطاقة النووية ، والصناعة العسكرية، يمكن تلمُّس ، الإخفاق الأعظم لسياسة «بوش» الصغير.
تأتي هذه القمة ، وهذا الإعلان النوعي ، عقب تطورين آخرين لا يقلان أهمية ، وفي واقع الأمر سيكونان لاحقاً، القابلة التي قد تولِّد نهاية عملية خلط الأوراق في الإقليم:
الأول : فشل المحادثات التي أجرتها في موسكو ، كل من كونداليزا رايس وروبرت جيتس ، حول مسألة الدرع الصاروخي ، والخطة التي ذهبت بعيدا ، في الاستهانة بالدب الروسي ، والمشاعر القومية الروسية ، التي أخذت طريقها مؤخراً ، للاضطرام خاصة بعد النجاح المذهل ، الذي حققته إدارة الرئيس بوتين ، في تحويل روسيا، من دولة مدينة متهالكة ، إلى دولة تحتفظ بمليارات الدولارات كفائض ، وتشهد نهضة صناعية واقتصادية عملاقة.
الثاني: هو القرار الأمريكي الصادر عن الكونغرس ، والذي اعتبر أحداث أرمينيا بمثابة «مذابح» ، وإدانة الدولة التركية ، باعتبارها وريثة الدولة العثمانية بهذا الأمر ، مما أشعل النار في المشاعر القومية التركية مجدداً ، ولاسيِّما وأن الدولة التركية لا زالت تحت غارات عناصر حزب العمال الكردستاني ، والتي تنطلق من المنطقة التي تسيطر عليها ، في شمال العراق البشمركة الكردية العراقية، وغض طرف إدارة «بوش» عن هذين الأمرين معاً ، تتم ترجمته في تركيا فوراً ، ليس من قبل الحكومة ولا حتى الجيش ، بل من قبل كل الشعب التركي ، بمثابة تهديد خطير للقومية التركية نفسها.
في هذا الوقت ، يمكن تلمّس اقتراب تكوّن الخطر الزلزالي ، والذي إن ضرب هذه الخاصرة ، بين تركيا وإيران وصولاً إلى العراق ، فإن لا شيء سيمنع التفاعلات المتسلسلة ، مع النشاط الاقتصادي القوي في الصين ، والارتفاعات المخيفة في قيمة العملة الأوروبية ، والانهيارات القوية في أسعار الدولار ، مصاحبة للكساد الذي بدأت تشهده الأسواق الأوروبية والأمريكية ، وإن الزيارة التي قام بها الجنرال الإسرائيلي أيهود باراك ، واجتماعه بكل من ديك تشيني وروبرت جيتس ، ربما تعطي إشارة ، بأن هناك رزنامة يجري التداول بشأنها ، لتحديد طريقة الضغط على صاعق التفجير!
في هذه الأُثناء تشغلنا الإدارة الأمريكية ، بوهم «مؤتمر الخريف» ، هذا الذي احتار الداعي في توصيفه، هل هو بمؤتمر ، أم هو مجرَّد لقاء ، وما هي أجندته ، فضلاً عن الجدول الزمني الخاص به، ناهيك عن الحضور ، وعن الغاية والغرض ، بينما تشير عشرات الدلائل ، أنَّ الفعل الحقيقي ، يجري في أماكن أخرى من العالم ، وبأن الحدث الذي يجري التحضير له بسرعة ، يتجاوز هذا المعلن!
في البحث الدقيق لصيغ «سلام الجغرافيا» ، المراد فرضه في فلسطين والمنطقة العربية ، ثمة دلائل أكيدة على «وهمية» تحقق هذا الفرض ، وشبه استحالة جسر الهوة ، بين «السلام العربي » ، وبين «السلام الإسرائيلي» ، في نقطة إرتكاز وتفرّع كل منهما، والأسباب جوهرية وليست مفرّغة ، وكلُّ المؤشرات على الأرض ، لا تدلل على أن «إسرائيل » ترغب فعلاً ، في أية تسوية من أي نوع كان، لا تكون وفق شروطها الخاصة بفهمها، لنوع هذا «السلام» الذي يجب أن ينتج عن هكذا تسوية ، أما العرب ، فمن الواضح أن غاية التنازلات وأقساها قد قدموها سلفاً ، في صيغة «المبادرة العربية» الأخيرة ، وأنهم ليسوا على استعداد للذهاب أسفل من هذا الخط الفاقع الحمرة.
الشروط الوطنية الفلسطينية ، التي قبلتها منظمة التحرير الفلسطينية ، بخصوص الحل السياسي المنشود ، واضحة ولا لبس فيها ، ومن خلالها نفذت «المبادرة العربية» ، فهي تريد دولة فلسطينية على حدود ما قبل الرابع من حزيران عام 1967، وعاصمتها القدس ، مع تنفيذ القرار 194 الخاص بعودة اللاجئين الفلسطينيين ، وهذه جميعاً هي موضع الجراحات المتعددة، التي تسمى لاحقاً «بالمبادرات والخطط» الأمريكية ، والتي تضع أمام عينيها هدفاً واحداً وقوياً، يتلخّص في كيفية التحايل على هذه الشروط، وتفريغها من مضمونها.
إن مركز فكرة مشروع «السلام العربي» ، قائمة على أساس تنفيذ الرغبة الدولية، بتقسيم الأرض الفلسطينية، بين دولتين : إحداها فلسطينية، والأخرى «إسرائيلية» ، وباقي الافتراض هو أن تتعايش هاتان الدولتان، بأمن وسلام ، وأن تقيما نوعاً من التعاون المشترك ، لتنمية التجربة والإقليم ، وتفترض طبعا هذه الرغبة ، أن هذه الطريقة ستفضي إلى تسهيل التطبيع مع المنطقة العربية ، وإندماج هذا الكيان المزروع ، في المنطقة والعالم من خلال هذه التسوية المنعوتة بالعادلة والشاملة.
في واقع الأمر ، فإن هذه الفكرة هي امتداد ، للقرار الدولي الذي صدر في العام 1947، والقاضي بفكرة التقسيم و«الدولتين» ، مع اختلاف بسيط، هو انخفاض قيمة الحصة الفلسطينية ، لتصل إلى حدود الأرض المسلوبة ، عقب عدوان العام 1967، وليس إلى تخوم حدود الأرض التي أقرها القرار الدولي، والشهير باسم قرار التقسيم لعام 1947، وقبل اشتعال حرب عام 1948، بين العرب وما أعلنته آنذاك العصابات الصهيونية ، على أنه قيام «دولة إسرائيل» ، وفق حيثيات هذا القرار نفسه ، ومن جانب واحد.
وإذا كانت القصة في القرارات الدولية، فالقرار الذي أنشأ الكيان «إسرائيل» عام 1947 ، ما زال ناقصاً ولم ينفّذ بعد، فالقرار يقتضي نشوء «دولة فلسطينية» مباشرة مع هذا الكيان ، وذلك وفق منطوق التقسيم الذي يلحظه هذا القرار الدولي ، وطالما لم يتحقق هذا الأمر بغض النظر عن الأسباب ، فإن هذا القرار يعتبر ناقصاً ، ولا تعطي العدوانية والحروب أية شرعيات ، في اكتساب الحقوق ، وعلى ذلك فإن ما تلا ذلك من تطوّر في توسّع هذا الكيان ، هو غير شرعي ، وعلى الإرادة الدولية ، أن تجبر هذا الكيان إلى العودة ، إلى حدود تنفيذ هذا القرار ، لكنها تكتفي بنسخ القرار الأول ، والذهاب في الدعوة إلى تنفيذ القرارات المتعلقة ، بإزالة آثار عدوان العام 1967، عبر القرار 242 ، وما تلاه عقب العام 1973 بحسب القرار 338.
في الواقع ، فإن حكومة كيان «إسرائيل» ، قد لحظت نجاح الرهان على عامل الزمن ، ليس فقط مع العرب والفلسطينيين، بل مع الإرادة الدولية ، طالما هي تحظى بتأييد الولايات المتحدة وحكوماتها ، وطالما هي تحظى بدعم جزء آخر من العالم، فانخفاض السقف بين 1947 وبين 1967، يمكن أن يتبعه مثلاً انخفاض آخر ، إن لم يكن نتيجة حرب وعدوان جديدين هذه المرة ، فعن طريق الإجراءات أحادية الطرف ، ومن خلال هذا العدوان اليومي ، استفراداً بالشعب الفلسطيني ، إذ طالما النتيجة المبتغاة واحدة ، فإن حكومة هذا الكيان بغض النظر عن نوعية من فيها وانتمائه ، ممعنة في تنفيذ ذات الأجندة، الجديد في هذه المسألة، أنها تجد وضعها أحياناً محشوراً ، تحت ضغط مطالب بالاحتكام للسلام ، فتنفّذ عبر ألاعيب المفاوضات طويلة المدى، ذات الأجندة قضمة قضمة ، لكنها لا تتوقف عن ذات المسعى.
ثمة ثلاثة أسباب أساسية، ربما لا نريد النظر إليها بجدية، ستجعل هذا «الآخر العدو» ، في حالتنا الفلسطينية ، غير صادقٍ ولا ساعٍ، إلى أن يتحوّل ، إلى «الآخر الجار» ، كأبسط توصيف في مراتب «الآخر» ، وفق عملية سلمية تقوم على مبادلة «الأرض بالسلام» ، وفق منطوق تحقيق السلام ، عبر عملية تقسيم الأرض الفلسطينية.
هذه الأسباب بالذات قائمة ، في ذات الشروط التي مثّلت الحد الأدنى، لمرحلية النضال الوطني الفلسطيني ، وهناك أسباب حقيقية عند «العدو» - كما يدعي- ، قد يخفي بعضها ، ولكنه بالتأكيد يظهر الأخرى، ليس فقط في إعلامه ومراكز البحث الإستراتيجي الخاصة به ، أو من خلال طريقها إلى «مفاوضاته » ، بل حتى في كل لقاءاته الدولية ، مهما كان مستواها ، ومهما كان نوعها ، سواء أتلك السياسية منها ، أم تلك الأكاديمية منها ، فهي دوماً حاضرة بالتأكيد ، وكلّما سمع هذا «العدو» ، من طرف دولي بتأييد ما لمواقفه تلك، حيال هذه التحفظات، كلّما غذَّ الخطى ، في سبيل ترجمة هذا التأييد أو التفهّم ، إلى «تنازل» يبتزُّه من «المفاوض» الفلسطيني أساساً ، تمنع هذه الأسباب طموحات «السلام العربي» المقترح ، وتحيله لديهم وهماً، في جانب الكيان «الإسرائيلي».
لكنَّ أيُّ تنازل في هذه الشروط ، هو نسف للحد الأدنى المتفق عليه ، والذي درجت الأدبيات السياسية الفلسطينية ، على تسميته «بالثوابت» الوطنية الفلسطينية ، وهو في ذات الوقت ، يقود إلى انتفاء تحقيق الهدف النهائي لهذه الثوابت ، أي تحقيق دولة فلسطينية كاملة الخلقة والسيادة ، وقابلة «للحياة» على أقل من الجزء الذي هو حق فلسطيني كامل بموجب القرار الدولي بتقسيم فلسطين عام 1947، - مع إجحاف هذا الجرم التاريخي أصلاً ، وعدم وجود مرتكزات شرعية وقانونية له- ، لكن في الجهة المقابلة ، فإن أيَّ تنازل من «المفاوض» الفلسطيني ، يعتبر السند القانوني الوحيد، لفراغ الشرعية التاريخية التي يعاني منها «العدو» ، وفي ذات الوقت هو الوقود الذي ينشّط محركات الخطط، تجاه إكمال استنزاف هذه الأوراق الشرعية، نحو الهدف الحقيقي عند هذا «العدو»!
كيف ينظر هذا «العدو» ، هناك في قرارة نفسه حقاً، لهذه الشروط الوطنية الفلسطينية ، من أجل قيام «حل سلمي عادل وشامل»؟
* في قضية حدود الرابع من حزيران، يترجمها مباشرة ، إلى المخاطر التي قد تنشأ ، عن وجود دولة فلسطينية قوية ، في المستقبل البعيد ، تطلُّ على باقي المنخفضات الجغرافية في فلسطين، من تحت هذه المرتفعات التي تمثُّلها ، الضفة الفلسطينية ، وهو بالتأكيد يحمل «الهوس » التاريخي ، في قضية «المرتفعات» و «الحصون»، في عقله الباطن، كما في فكره الظاهر حتى اليوم!
من المنطقي أن تحاول «المعاهدة» ، أو أي اتفاق سلمي أن يلحظ هذه المخاوف ، وأن يقدِّم له «التطمينات» ، بأن هذه المخاوف لن تكون محقة، حيث هذه المعاهدة، ستعمل على إنشاء منطقة «رخاء» ، ومنطق «تعاون» ، على الأقل وفق النمط الذي شاع، في «شرق أوسط آمن» ، لاسيَّما وأن هنالك من البنود التي سوف تكفل له ، أن يعيش بسلام وأمن مكفولين «دولياً» ، فضلاً عن أن البعد العربي في هذه المعاهدة، - حسب المبادرة العربية- ، سيتيح له وللمرة الأولى أن يكون جزءً من هذا الشرق الأوسط،!
كان يمكن بالتأكيد ، أن يقبل هذا المنطق ، في أيِّ مكان في العالم ، ولكن مع كيان «إسرائيل» ، يبدو أنه غير مقبول ، بل وحتى مطالباته الخاصة الثقيلة ، من نوع وجود «محطات إنذار مبكّر» ، في الضفة الفلسطينية، ووجود دولة فلسطينية «منزوعة السلاح» ، و احتفاظه بورقة «فيتو» على علاقات هذه الدولة المستقبلية ، من ناحية المعاهدات والاتفاقات ، وخاصة تلك العسكرية منها ، وأكثر من ذلك بكثير ، لا يبدو أنها حتى مقبولة عند «إسرائيل» ، فهي - على فداحة الإخلال بمبدأ السيادة في هذه - تريد وضعاً آخر ، إنها تبحث عن ضفة مسوّرة ، مقسّمة إلى أجزاء ، لا تصل البحر الميت ، وتقع «مرتفاعاتها» بيد «التخريب الاستعماري» ، ويحسب الناقص من هذه المساحات ، ليعطى مقابله مساحات في النقب أو غيرها، هل يمكن لأي «مفاوض» فلسطيني ، أن يقبل بهذه الصورة؟ وهل يمكنه بعد ذلك الحديث ، عن وفائه لشرط الرابع من حزيران الأول؟
كيان «إسرائيل» يمعن في مصادرة الأرض ، آخرها تنفيذ جزء آخر من خطة توسيع معاليه أدوميم ، والتي أقرها شارون مبكّراً ، وتناولناها قبل عدة سنوات في هذا الموضع، وهذه 1100 دونم التي وضعت يدها عليها من حول القدس ليست آخر المشروع ، وأنصح بالعودة إلى تفاصيل هذه المشاريع المعلنة ، يعني على الأقل حتى لا يدعي أحد ما المفاجأة ، فهؤلاء ينفّذون ما يقرونه في المستويات كلها ، قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل، هل يمكن أن نقول أن هناك جدية «إسرائيلية» في مسألة التعاطي مع هذا الثابت بعد ذلك؟
منطقياً لا.... ، وأكثر منه منطقية أن كيان «إسرائيل»، في حقيقة الأمر يبدو أنه يراهن ، على توفّر «الشريك المناسب» في مفاوضات تقود إلى القبول بهذا التغيير على الأرض ، وبالتالي القبول «بالعرض المقابل» ، بما لا يتيح مجالاً لغير ذلك ، وإذا ما أثيرت مسألة إخراج هؤلاء «المخربين» من سيناء وغزة ، في سابقتين قامت بها حكومة كيان «إسرائيل» ، الأولى بقيادة حزب «ليكود» ومناحم بيغن ، عقب معاهدة «كامب ديفيد» من سيناء ، والثانية بقيادة حزب «كاديما» وأرئيل شارون من غزة ، فإن المؤكد الواضح ، أن الضفة ليست على ذات الأهمية عند هذا الكيان ، بسبب يزيد عن السبب الجغرافي والمساحي ، ففي الضفة تحديداً تظهر الأسباب الأخرى ، خاصة في مسألة المياه وهي الخزان الفعلي لكل فلسطين ، فضلاً عن مسائل دينية محض وأيديولوجية ، ليست فقط موضع هوس في القدس ، بل الخليل ونابلس وبيت لحم وغيرها ، أيضا في مستوى الاعتبار.
في مسألة المياه ، فإن هناك بالطبع مجال لاتفاقيات حول التوزيع ، ولكن إذا كانت كلُّ المؤشرات المناخية والجيولوجية ، تشير إلى أن هناك نقصاً حاداً في هذا العنصر الحيوي ، وذلك إلى حد النبوءة بأن «الحروب القادمة» ، في العالم ستكون حول المياه وبسببها ، فإن هذا سيقود إلى الشهوة الصهيونية الوقحة المعهودة ، إلى أخذ الأضعاف والاحتيال في البواقي التافهة ، بل إنها أوضحت أنها ترغب في حرمان الدولة الفلسطينية العتيدة ، من مياه البحر الميت!. وبالقطع فإن ما يجري الحديث حوله من اتفاقيات لتنظيم الوضع الديني في مسألة القدس ، لن يستثني غيرها في الضفة الفلسطينية ، ولكن السؤال ، هل يقتنع هذا اليمين الأيديولوجي بهذه المساحة؟
إن النظرة إلى الضفة تحديداً ، وخاصة عند قطاع اليمين الصهيوني ، وأحزابه وقواه ، تساوي النظرة إلى نوعية الفكرة الصهيونية وارتباطاتها الأيديولوجية ، وكذلك مستوى المستقبل الذي تريده هي لنفسها، فهل هناك بعد ذلك شك، من أسباب عدم جدية كيان «إسرائيل» ، في الموافقة على هذا الشرط الأساس كما هو؟
* المسألة الثانية هي القدس ، والقدس مسألة عربية وإسلامية ومسيحية ، بنفس القدر التي هي مسألة فلسطينية ، وذلك من ناحية البعد الروحي ، بينما هي في ناحية البعد المادي في الجغرافيا والتراب ، هي مسألة فلسطينية عربية وإسلامية مسيحية ، وإذا كنا نتحدث عن القدس ، فإن القدس التي كانت بأيدي العرب هي القدس التي يجب أن تعود إلى أيدي العرب ، والمعلوم أن أكثر أراضي القدس الغربية ، التي انتزعها كيان «إسرائيل» ، بشتى الوسائل العدوانية ، هي أراض عربية!
مع ذلك فإن الشرط الوطني الفلسطيني ، يقبل بالقدس «الشرقية» ، عاصمة للدولة الفلسطينية العتيدة، وإن تسمية «القدس الشريف» ، لا تعني منطقة الحرم القدسي بكل تأكيد ، حتى لو حاولت بعض الوسائل دفعها بالصرف في سوقها على هذا النحو ، فكل أراضي بيت المقدس هو قدس شريف بما فيه الحرم ، وإذا كانت هذه المسألة تحتمل كما هو معلوم ، الأرض والسكان والمقدسات بما فيها الوقف ، فإن كيان «إسرائيل » سعى جاهداً ، ومنذ احتلالها في العام 1967، إلى إجراءات عدوانية شتى ، حاولت ولا زالت تحاول ، تهويد هذه المدينة بكاملها ، إن سواء في منطقة الحرم أو ما حولها.
ماذا يراد أن يقدّم اليوم «للمفاوض» الفلسطيني؟
في الواقع، إنهم قد سبق وطرحوا على الشهيد ياسر عرفات ، في كامب ديفيد 2 ، صورة عما كانت في أذهان حكومة إسحق رابين بالوراثة ، والتي حاول بها الجنرال أيهود باراك، أن يظهر وكأن هذا هو منتهى «التنازلات المؤلمة» - بحسب عادتهم- ، لقد وصل كيان «إسرائيل» إلى عرض تقسيم طبقات الأرض ، بعد أن استهلك الأرض المحيطة ، وفصل معظم الأرض المقدسية بصور كتل ومدن «التخريب» ، أما ما سوف يتلو في هذه المفاوضات المرتقبة، فهو بالتأكيد بعد قصة «جبل أبو غنيم » ، ليس آخرها هذه الأرض المصادرة أخيراً في مسألة E1 ، من أراضي العيزرية وغيرها ، علينا انتظار المزيد في هذه المسألة من حيث حجم ونوعية التراب والأرض المقدسي للعاصمة الفلسطينية!
في مسألة مقدسات القدس ، فها هو اليوم يظهر تطوّر نوعي ، فالحفريات والتنقيب ، والهدم من حول الحرم القدسي ، في حمأة من العمل ، والمعروض قبل فترة كما أشيع ، ليس فوق الأرض هذه المرة ، حيث انتهت عملية الاستيلاء على القسم الأعظم من تحت الأرض بالفعل، وشبكة الأنفاق وصلت إلى معظم مبتغاها ، وبعد إكمال بناء الجسر الجديد في رقبة حائط البراق ، سيتفاجأ العالم بوجود باب آخر ينفذ إلى أعلى ، إلى ساحة الحرم أو ربما صحن المسجد ، من هذه الشبكة الأنفاقية!
إذن فلماذا لا يقولون اليوم عن مجرّد رفع علم فلسطيني ، فوق المسجد الأقصى ليس حتى كل الحرم ، وهكذا فهذه حصة المقدسات للطرف الفلسطيني ، وربما هناك المزيد.!
* مسألة حق العودة واللاجئين ، وفي هذه المسألة تحديداً ، لا تخفى المخاوف الديموغرافية ، وبينما تحاول بعض الأطراف في هذه المفاوضات التعمية بالقول ، بأن الحل سيكون في «حل عادل ومتفق عليه» ، مسقطة بذلك أساس هذه الورقة الفلسطينية ، والمتمثلة حكماً بالقرار 194 ، والقاضي بحق «العودة والتعويض» ، فإن مآلات تفسير هذه العبارات الجديدة ، ستغدو خطرة ، في حال كانت بديلاً مضمراً أو علنياً، لتنفيذ هذه الإرادة الدولية ، وهي الإرادة التي صدرت على أساسها فتوى التقسيم نفسها ، إذ كيف يمكن القول أن هذه الإرادة تقتضي تقسيم الأرض ، ولكنها ترفض الشق الآخر القاضي «بعودة صاحبها الأصلي»!
هذا التناقض ، لا ينسف فقط جوهر مرتكز هذه العملية السلمية ، ولا يودعها خانة «الإزدواج» ، بل هو يضعها في تناقض «قانوني وفقهي » دوليين ، لا يجعل من طريق آخر سوى الاصطام به ، إن عاجلاً أم آجلاً.
حكومات الكيان «الإسرائيلي» المتعاقبة ، تراهن أيضا في هذه المسألة على عامل الزمن ، فبينما هي تستمر في الجدال بشأن أعداد اللاجئين ، ومرة بشأن التفريق بين «أجيال اللاجئين» ، تعمد على الأرض إلى محاولة يائسة ، للتخلُّص من أثر هذه الورقة ، ليس المادي فقط ، بل المعنوي والإنساني ، وهما عاملان أساسيان كانا وما زالا ، الإمتحان الحقيقي لهذا الكيان ، فنظرة فاحصة تتيح اليقين ، بأن تفجير الثورة الفلسطينية المعاصرة، كان إفرازاً مباشراً لثقل هذا العامل وفعله.
الطروحات التي تحاول القفز عن هذا الثابت ، من خلال القول بحشر بعض هؤلاء في «الدولة الفلسطينية» ، والعودة إلى هذه الدولة وعلى أراضيها ، مع إمكانية استيعاب بعض الأعداد ، في كيان «إسرائيل» ، وفق برنامج تحدده حكومة هذا الكيان، يتم على أساس قضايا إنسانية ، درجت على تسميتها بمسمى «لم الشمل للعائلات» ، أو تلك التي تريد أن تنقل عدداً من هذه الكتلة الهامة، إلى مناطق جديدة سيتم «االحصول» عليها ، وفق افتراض «تبادل الأراضي» ، أو تلك التي تلحظ بقاءها في مناطقها مع التعويض ، وتسهيل هذه الآلية بتمويل غربي - عربي ، وغطاء عربي أساس ، أو تلك التي تقدم حلول «الكونفدرالية» على أساس ، التخفيف من وطء انخفاض قيمة التعامل والصرف ، لهذا الثابت الهام ، تعتبر كلها مشاريع احتيال على الثابت الوطني، وهي مرفوضة بالمطلق من اللاجئين، ومن عموم الشعب العربي الفلسطيني ، بل إن الكلام الكثير من حولها ، ما هو إلا محاولة تنفيس درجة الاحتقان التي تضغط بقوة ، جرآء التعمية في هذا العامل.
الواضح أن «السلام العربي» ، في نظر كيان «إسرائيل» ، ليس أكثر من بضاعة غير مرغوب بها ، ويتوقع هذا الكيان ، أن يستطيع عامل الزمن ، أن يحيل هذا الطرح الجاد من قبل العرب، إلى مجرَّد وهم ، وهو لا يعطي أيَّ قيمة حقيقية، لسلة «المغريات» المفترضة، في هذا الطرح السلامي العربي ، ببساطة لأنه يتوقع الحصول على هذه الثمار ، دون دفع مقابلها، فهذا الكيان الممعن في المصادرة والتهويد والقضم والاغتيالات والاستهداف لكل شيء في فلسطين ، وتحت غطاء «أسطوانة عملية سلام » ، أن ينجح في خلال العشريات المقبلة كما يراهن ، على تقديم مجرّد كانتونات للعيش لا أكثر ولا أقل ، ولمن شاء بعد ذلك أن يطلق عليها ما شاء.
هذا النوع من السلام ، هو «السلام الإسرائيلي» المعروض ، والذي يمكن أن يقبل فوراً، والناظر المتفحّص للرغبات الحقيقية «الإسرائيلية» ، يلمس حقيقة الأطماع المتحفِّزة ، ليس فقط في الأرض الفلسطينية على كلِّ حال ، ورغم هذه الاتفاقيات المعقودة مع عدد من دول الجوار العربي ، إذاً «عندنا مشكلة، فالطريق مغلق» ، ولعل هذه الجملة هي الناقص الكبير ، وذلك في مشهد البحث عن حل سياسي، وفق النمط الذي تحاوله سيول المبادرات أن تبشِّر به.
إن السلام الوحيد الممكن يغدو في نهاية الأمر ، هو سلام التاريخ ، ولا يتحقق هذا الأمر إلا في عملية تصحيح تاريخية ، يقع طرفها الأدنى ، في دولة علمانية واحدة على كامل التراب الفلسطيني ، مع تنفيذ العودة الشاملة ، وتهيئة المقومات لتحقيق نمو طبيعي ، - يعني ليس في فنتازيا دولة يهودية- ، أو في استمرار النضال العربي والفلسطيني ، ولعهدة أجيال قادمة ، في تحقيق التحرير والعودة ، في الحد الأعلى ، وإعادة الحقوق إلى أصحابها، هذا على كلِّ حال هو قانون «السلام الإسرائيلي».
للوهلة الأولى ، سينظر البعض إلى مثل هذا الطرح ، باعتباره حالماً ، أو في أسوأ الأحوال ، باعتباره «غير واقعي» ، إلا أن الحدود التي تفرض الفرق بين الحلم واليقظة ، هي ليست إلا حدود «القوة» ، وكذلك هي ذات الحدود التي تفصل الفرق بين الخيالي والواقعي ، وفي حين تكون عادة إرادة الشعوب هي وقود الحلم ، وهي رافعة نقل الحلم إلى حقيقة ، تكون إرادة «أعداء الشعوب» في الجهة المقابلة ، وهذا هو مختصر صراع «الخير والشر» ، ومعركة «الحقِّ والباطلِ» ، والشعوب تقدّم من أبنائها نخبة من «الحالمين» ، وضمن هذه النخبة سيتفاوت مستوى «الحلم» بين ذاهب إلى أقصاه دفعةً واحدة ، وبين مناورٍ في مراحل ، وبالطبع لن تكون كلُّ النخب «حالمة» ، فثمة «أحلام» أخرى عند نفر منها ، تكيل في بيدر «الآخر» ، وتسعى جاهدة وفق برنامجه ، بعضها لمصلحة ذاتية صرف، وبعضها لسوء ظن بالنفس ، وسوء ظن بالله ، وسوء ظن بالعشيرة ، وإن جاءت على «مقامات» التفسير المختل ، «للعقلانية» و«للواقعية» !
ماذا بعد اكتشاف الجميع ، أن لا فرصة أمام هذين الوهمين ، هو الباقي الأكبر ، والمفقود الآن ، أبعاد أي إجابة عربية ، لكن في الجانب المقابل ، نشكُّ بأن مثل هذه الأبعاد غير متوفرة ، بالنسبة لأجنداتهم وستراتجياتهم!