لقد لعبت علاقة الضباط الأحرار بالكيانات السياسية الأخرى دوراً حاسماً في تطور التنظيم، وقد فرضت هذه المشكلة نفسها منذ عام 1949، وظلت تلازمهم – بصورة أو بأخرى – على الدوام وكان اهتمامهم كبيراً بالمنظمات الجماهيرية القريبة منهم. وكان الصاغ محمود لبيب هو سنارة الإخوان التي تدلت بين الضباط  في الجيش فاستطاع أن يجتذب بعضاً منهم. وكانت أكبر الرتب التي أقبلت إلى الإخوان ( عبد المنعم عبد الرؤوف، جمال عبد الناصر ، أبو المكارم عبد الحي، كمال الدين حسين). ونظراً لحساسية وضع الضباط فقد رئي آلا يكون نشاطهم في شعب الإخوان بالمجال العام حتى لا يكونوا عرضة للمحاكمات العسكرية والفصل والقوانين التي تحظر على الضباط الاشتغال بالسياسة أو الانتماء إلى منظمات سياسية، ولذلك تقرر إلحاقهم بالنظام الخاص وتم اتصالهم بعبد الرحمن السندي. يقول عبد المنعم عبد الرؤوف:أنه "في سبتمبر 1949 أبلغني جمال عبد الناصر  أنه لا يستطيع تجميع الضباط حول مبادئ الإخوان المسلمين وإتباع هذا الأسلوب المتزمت في اختيارهم المتمثل في أن يشترط في الضباط الذين يُراد ضمهم للتنظيم اجتناب الخمر والميسر والنساء الساقطات، وضرب لي مثلاً بقوله: إن خالد محي الدين تركنا 1947 واعتنق المبادئ الماركسية، وانضم إلى منظمة اسكرا الشيوعية. وطال الجدل بيني وبين جمال عبد الناصر، واستغرق عدة ساعات، وظل كل منا متمسكاً برأيه ".    كان عبد الناصر يري أن التدين الكامل غير متوفر في أغلب ضباط الجيش - في ذلك الوقت – والحالة السياسية في مصر خطيرة وتفرض القيام بعمل إيجابي، وأنه تكفيه في العناصر الجديدة صفتا الشجاعة والكتمان. ولما كان هناك خلاف في الرأي بين جمـال عبد الناصر  ومعه كمـال الدين حسين من ناحية وبين عبد المنعم عبد الرؤوف ومعه أبو المكارم عبد الحي من ناحية أخري، فقد طلبوا عرض الخلاف على المرشد العام – الأستاذ الهضيبي– الذي رأي أن هذه مجموعة تريد أن تتحلل من التزاماتها كإخوان، وليس هناك بد من قبول ذلك وأنه ربما كان من الأصلح  أن يستمر الإخوان في طريقهم وليستمر جمال في طريقه.وكان هذا هو ما أراده جمال فأجاب بأنه سوف يستمر صديقاً للإخوان.

           ما نريد الإشارة له هنا؛ أن ما حدث من انفصال كان قبل أول اجتماع للجنة التأسيسية، وأن ذلك كان مجرد ابتعاد بعض الضباط عن الاتصال بجماعة الإخوان المسلمون. ومما يؤكد ذلك ما أورده أحمد حمروش بقوله: "وفي هذه الفترة – أي عام 1949بعد عودة الجيش المصري من حرب فلسطين- كان جمال عبد الناصر  وكمال الدين حسين قد تركا الإخوان مع عدد ملحوظ من الضباط ". وبعد أن أصبح لتنظيم الضباط الأحرار وجود وخلاياه داخل صفوف الجيش، حاول الإخوان المسلمون دمج هذه المجموعة (الضباط الأحرار) في صفوف تنظيمهم وتحويلها إلى تابع يأتمر بأمرهم. كما كان بعض الضباط يفضلون الوحدة مع الإخوان، أو إقامة تعاون وثيق معهم، أو السماح بعضوية مزدوجة.    

               كانت اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار تحت إشراف عبد الناصر الذي أصر على استقلالها الكامل عن كل الجماعات الأخرى سواء داخل أو خارج الجيش، وعلى الأخص، كان عبد الناصر مصمماً على عزل الحركة عن الإخوان المسلمين، بينما كان الإخوان يحاولون تجنيد أكبر عدد من ضباط الجيش عن طريق كبار مندوبيهم. وأحد هؤلاء المندوبين كان عبد المنعم عبد الرؤوف عضو اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار، وعن ذلك يقول أنور السادات: " فوجئنا بالبكباشي عبد المنعم عبد الرءوف وهو ينادي بضم تنظيم الضباط الأحرار كله إلى الإخوان المسلمين ". هنا حدث خلاف في الرأي للمرة الثانية – على الأرجح–  بين جمال عبد الناصر وعبد المنعم عبد الرءوف، ولكن هذه المرة بخصوص تبعية هذا التنظيم السري – تنظيم الضباط الأحرار- للإخوان المسلمين، ورفض جمال عبد الناصر  تبعية التنظيم للإخوان المسلمين ووافق باقي الضباط على رأي جمال فانسحب عبد المنعم عبد الرءوف. كما تم إسقاط عضويته من اللجنة التأسيسية لالتزامه وارتباطه بجماعة الإخوان المسلمين بدلاً من تنظيم الضباط الأحرار.    

      والآن؛ بعد أن عرفنا وجهة نظر عبد الناصر واللجنة تجاه الإخوان بقي أن نعرف وجهة النظر الأخرى، وجهة نظر الإخوان المسلمين أنفسهم، فيري صلاح شادي أن الإخوان المسلمين هم الذين كونوا الضباط الأحرار، وهم الذين أطلقوا عليهم هذا الاسم، فإن حسن البنا  كون نظاماً خاصاً للإخوان المسلمين يضم مدنيين وعسكريين يؤهلون تأهيلاً عسكرياً للقيام بأعمال فدائية يتطلبها نشاط الجماعة. فلما تكاثر عدد الضباط بدأ الأستاذ حسن البنا يفكر في تشكيل قيادة خاصة لهؤلاء الضباط وتكون مستقلة عن النظام الخاص وأسند رئاستها للصاغ محمود لبيب وكيل الجماعة باعتباره ضابطاً سابقاً بالجيش. وكان محمود لبيب يري أن يجعل لهذا النشاط اسماً حركيا بعيداً عن الإخوان المسلمين فسماهم  " الضباط الأحرار ".    

      في الواقع؛ رأي صلاح شادي هذا أقرب إلي الوهم منه إلى الحقيقة، فلم يكن للإخوان أية علاقة بتكوين الضباط الأحرار وهذا اتضح من الصفحات السابقة. أما اسم  "الضباط الأحرار" فلم يكن لمحمود لبيب أية علاقة في إطلاق هذا الاسم على الضباط وهذا ما سيتضح في الفصل التالي من هذا الكتاب.    

      أما رواية حسن العشماوي – أحد الإخوان المسلمين– والتي يقول فيها أنه توثقت الصلة بينه وبين عبد الناصر الذي شكا له كثيراً من جهالة زملائه وضيق أفقهم، فهو قد جمعهم من مجالس تحضير الأرواح والجان ولم يستطع أن يرتقي بمداركهم عن مستواهم القديم  "ولم نرفض طلبه العون في تعليم زملائه ". تلك الرواية تناقض بعضها، فجوهر شهادة العشماوي أن مجموعة من الضباط الغارقين في العبث جمعهم عبد الناصر وأقنع كلا منهم أن يسيروا على مبادئه.. فهل هؤلاء العابثين كانوا مجموعة من الوطنيين الذين يرجي منهم أي عمل، أو يؤتمنون على تنظيم، وهل كان في استطاعتهم أن يقوموا بثورة، ثم وهو الأهم كيف يقبل الإخوان أن يتعاونوا معهم.    

      يتضح الآن، أن وجهة نظر الإخوان كانت مضللة ومغرضة وبعيدة كل البعد عن الحقيقة. فبعد نجاح حركة الضباط حاول الكثيرين ومن بينهم الإخوان نسبة ذلك النجاح لأنفسهم، فكما هو معروف أن للنجاح ألف أب وللفشل أب واحد فقط!  المراجع:*أحمد عادل كمال ، النقط فوق الحروف :الإخوان المسلمون والنظام الخاص، الزهراء للإعلام العربي، القاهرة، 1989*إليعازر بعيري، ضباط الجيش في السياسة والمجتمع العربي ،  ت. بدر الرفاعي ، سينا للنشر ، الطبعة الأولي ، القاهرة ، 1990*ب.ج.فاتكيوتس، جمال عبد الناصر وجيله، ت. سيد زهران ، دار التضامن ، بيروت ، 1992*صلاح شادي، صفحات من التاريخ حصاد العمر، الزهراء للإعلام العربي، الطبعة الثالثة، القاهرة، 1987*عباس السيسي، في قافلة الإخوان المسلمين، ج1، دار القبس، الإسكندرية1989.

*لويس جرجس، يوميات من التاريخ المصري الحديث (1775 - 1952)، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 1998
مؤرخ وأكاديمي مصري

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية