لمّا كان الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى مُحاضرًا في التفسير الموضوعي وعلوم القرآن بالجامعة الإسلامية بقسنطينة، لا تكاد تجدُ مكانًا تجلس فيه داخل المدرّج، فالواقف أكثر من الجالس، وفي الحضور الطّالب والطّبيب، والبعيد والقريب، من المنتسبين إلى الجامعة أو من خارجها، ومن خارجها أكثر.
والمشهد كأنّه خطبة جمعة، أو خطاب قائد في النّفير؛ المصوّرات والكاميرات والمكبّرات في كل جهة.
والشيخ مواظب على الحضور في الوقت، ولا يغيب، ودروسه ومحاضراته مسجّلة كلها في أرشيف الجامعة، بل حتى عند العوام.
كان رئيس المجلس العلمي، وعضوًا في لجان الفتوى، ومشاركًا في العديد من الملتقيات داخل الجزائر وخارجها، وله لقاءات تصادمية مع رؤوس العلمانيين والشيوعيين في بلدنا وقتئذٍ، في كم من موقف وملتقى، منافحًا عن الدين، ومقنعًا لمجادليه، بالحُجّة والتواضع.
وكانت له لقاءات أسبوعيّة دورية؛ تلفزية وإذاعية، لا يتوانى في تعهّدها، والقيام بها، شأنه في جميع أعماله العلمية.
كان كثير التأليف، وكتبه معروفه في شتى الميادين، ومن كثرة انهماكه فيه، وتركيزه عليه، تجد مكتبته المنزليّة لا كالمكتبات، تكاد تكون شاغرة من الكتب المصفوفة، وما أكثر المتناثرة هنا وهناك على الأرائك والأسرّة وفوق البلاط.
كان سمّاعًا لإذاعة صوت أمريكا وغيرها، وسألناه في ذلك فأجاب بأنّ الدّاعية يجب عليه معرفة المجتمعات المدعُوّة، حياتها وكواليس الحياة.
كان مضيافًا إبراهيميًّا، لو زرتَه في أيّ وقت لوجدتَ ضيوفًا معه، وضيوفًا ينتظرون، ويُعطي الكلّ من ترحيبه واستقباله ما لا يفعله الصّغار، مُجالسةً ومحادثةً وتلبية للحاجات العلميّة وغيرها، ولا يخيب زائره، ولا يعود صفرًا.
علاقته بالمجتمع عامّة، وبجيرانه خاصّة، لا تفتر عن المخالطة والمؤانسة والنّصح والتعليم والدعوة، والذي يخالط النّاس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط ولا يصبر، كما جاء في الحديث.
وقد أصاب زلزالٌ قسنطينةَ في زمانه، فكانت له مواقف مشرّفة في تهدئة الجماهير المرعوبة، وطمأنة الجموع المشدوهة، وإعادة الإيمان والثقة في النفوس، ولا يزال الناس يذكرون فضله في ذلك.
بلغ منه الكِبَر مبلغه، وخيرنا من طال عمره وحسُن عمله.
درستُ عنده أواخر الثمانينات من القرن الماضي، بجامعة الأمير بقسنطينة سنتين، وأخذتُ من أدبه وسمته أكثر من علمه واجتهاده.
عرفه القريبون منه صوّامًا قوّامًا، وعرفته زاهدًا بكّاءً، مجاهدًا بلسانه وبنانه، رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.
وقد توفّاه الله على أحسن حال وخير ختام، شاهدًا ومشهودًا، في أطهر مكان وأعظم بقعة.