يظن بعض المتحمسين لنشر الخير في هذا العالم أن القوة هي السبيل الوحيد لنصرة الحق مستندين إلى ما حصل من المعارك الكبرى في الإسلام في فجر الدعوة وما تلاها من عصور.
ويحلم هؤلاء بوضع راية الإسلام الحنيف خفاقة فوق كل مكان في المعمورة، بمعنى النصر على الآخر، وإنهاء وجوده بأي صورة، وهذا مخالف لمنطق الحياة الذي هو منطق الإسلام، فالحياة تقتضي التنوع، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (التغابن:2). وبين الله تعالى أن وظيفة النبي الدعوة وليس الإكراه، قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس:99).
ووجود معرضين أو مستنكفين أو أعداء للرسل أمر طبيعي، قال تعالى:(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:112).
والاختلاف سنة من سنن الحياة، قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (هود:118) . وقد قدر النبي عليه السلام هذه القاعدة، فحين دخل مكة فاتحا لم يستأصل خصومه كما يعمل عموم الغزاة والفاتحين، بل قال قولته الخالدة: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) تاركا للآخرين حريتهم في اتخاذ مواقفهم وعافيا عن إساءتهم وإخراجهم وحربهم له ولمن معه، وقد مضى على هذا خلفاؤه من بعده، فكان يعيش في المدينة الصحابة والمنافقون واليهود والمجوس وبعض الأقليات الأخرى كمجتمع واحد شعار المسلمين تجاه غيرهم القاعدة الشهيرة: (لهم ما لنا وعليهم ما علينا).
وعليه يجب أن لا نحلم كثيراً وأن نكون واقعيين، ونعلم أن أكثر الناس لن يؤمنوا، قال تعالى: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (يوسف:103)، وقال تعالى: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (الأنعام:116).
والمؤمنون قلة في كل زمان ومكان حتى في مملكة النبي داود عليه السلام الذي جمع بين الملك والنبوة، فلم يستطع أن يلزم الناس بالإيمان، قال تعالى: (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ) (صّ:24).
والسبب في انصراف معظم الناس عن الإيمان هو وجود الشهوات التي تحبها النفس، والتي يستخدمها إبليس ليقطع الطريق إلى الله، قال تعالى حكاية عن إبليس الذي يصر على الغواية وتزيينها للناس: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف:16).
ومسألة استخدام القوة كان لها ظروفها التاريخية في فجر الدعوة وما بعده، والقوة عادة ما تستخدم إما دفاعاً عن النفس والأوطان، أو لنصرة المظلوم ونجدة الملهوف، وتكون بالأصل من قبل الحاكم، إلا في حالة الدفاع عن النفس والغزو الخارجي، وأما استخدامها للعدوان فمرفوض، والإسلام ضد العدوان في كل الأحوال، قال تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة:190).
وعليه فالخير والشر زوجان متناقضان في هذه الحياة بل وفي النفس الإنسانية الواحدة، ولا يستطيع أحدهما أن يلغي الآخر، لأنه لو تم ذلك ذهبت فرصة الابتلاء في هذا العالم، ولما عاد هنالك فائدة من هذا الوجود، قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة:48).
فالحياة ليست إلا صراعاً بين الخير والشر، وهذا الصراع لن ينتهي برفع العلم الأبيض من أي من الطرفين، وإنما ينتهي بهزائم محدودة تعقبها انتصارات محدودة، والحياة مد وجزر، وكر وفر بين الناس جميعاً.
ولو جاز أن تكون الحياة خيراً محضاًً لما وجدت ظاهرة سلمان رشدي ونسرين النغلاديشية وأمثالهما من المرتدين، ولو كانت شراً محضاً لما وجدت ظاهرة الفنانات العائدات إلى الله تعالى، وعلى هذا الأساس يخطئ من ظن أن الإسلام سينتهي بفعل جلاديه، كما يخطئ من ظن أن الشر سينتهي بسبب الخيول القادمة من الشرق، أو القادمين الخضر، أو الصحوة الإسلامية، لذا لا ينبغي الخوف على مستقبل الإسلام من قبل أبنائه، ولا على مستقبل معارضيه الذين يخترعون هذا الخوف ليجلدوا العالم الإسلامي من خلاله.
والذين يؤججون الصراع بين الإسلام وخصومه أياً كانت وجهتهم لا يخدمون قضية الإسلام ولا السلام في هذا العالم، فالإسلام ليس خطراً على أحد، فهو نور وهدى، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) (النساء:174)، والنور يهدي البشر ولا يضرهم، ولن تستطيع قوى الشر في العالم كلها أن توقفه، قال تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (الصف:8).
والمطلوب من الدعاة المسلمين الدعوة إلى دينهم بالحكمة والموعظة الحسنة، قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل:125)، فلا يشهروا السيف في وجه عامة الناس، ويعكروا صفو الأمن العام، ويؤلبوا العالم على المسلمين، فالدين بعيد عن هذا كله، فهو يدعو إلى المشاركة الفاعلة في صناعة الحضارة، فقد غفر الله لمومس سقت كلبا في الصحراء، لأن المحافظة على روح الحيوان مطلوبة فما بالك بالإنسان!!، وأمر النبي محمد عليه السلام بالغرس ولو عند قيام الساعة!!، فهو يريد الأرض واحة خضراء ومائدة مفتوحة للأحياء جميعا.
فعلى المسلم أن يسأل نفسه ماذا قدمت للآخرين؟ لقد قدمت لي الحضارة الكثير من وسائل النقل والاتصال والتقنية والمعلوماتية وغيرها، فما هو أثري الإيجابي بالحياة، وماذا يجب أن أقدم بالمقابل؟ وهل يصح أن أكون عالة في الحياة أستهلك ما تنتجه حضارة الغرب ولا أشارك في ما تنتجه، فالتفكير بهذه الطريقة يجعله على الصراط المستقيم وينال محبة الناس.
أما سفك الدماء الأبرياء فلا ينبغي أبدا، لأنه يزيد في مآسي الإنسانية، ويظهر الأمة الإسلامية وكأنها عدوة للحضارة والإنسانية وليست أمة الرحمة والخير والهداية وخير أمة أخرجت للناس، فهذا موسى عليه السلام عندما أراد أن يبطش برجل آخر نصرة لرجل من قومه راجعه الرجل، وبين له أن البطش ليس من شيم الصالحين بل من شيم الجبارين المفسدين فأقلع عن هذا موسى، قال تعالى: (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) (القصص:19)، فعلى الدعاة أن يستخدموا الحكمة والرفق، وينبغي لكل داعية أن يسأل نفسه قبل أن يدعو: هل أصلحت نفسي؟ ومن سأدعو؟ وكيف؟ ولماذا؟ وما هي الوسائل والعوائق؟
إن الذين يحلمون بإصلاح الأرض كلها وأن يدفع أهلها الجزية لهارون الرشيد مرة أخرى هم واهمون، فالجزية لم تؤد للمسلمين من كل أصقاع العالم في أوج حضارتهم وقوتهم، فكيف وقد وهنوا وضعفوا؟ حتى صار المؤمن يستعد للعزلة والفرار بدينه من الفتن إلى رؤوس الجبال، ففي الحديث: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال [رؤوسسها وأعاليها] ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن). [رواه البخاري]
ثم إن معظم الناس أميل إلى الهوى والشهوات منهم إلى العقل والهدى، وبتعبير أدق: الحياة العاطفية ومستتبعاتها مقدمة على الحياة الروحية ومستتبعاتها، وهذا ما يفسر كثرة أهل النار، روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((يقول الله تعالى: يا آدم! فيقول لبيك وسعديك، والخير كله في يديك. قال: أخرج بعث النار. قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فعندها يشيب الصغير (وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ). (الحج: من الآية2). )). [متفق عليه]
كما أن الذين يحلمون باستئصال شوكة الإسلام هم واهمون أيضاً، فالإسلام وإن يكن أهله في ضعف مادي وحضاري، ولكنه قوي فكرياً ومعرفياً، لأن لديه الحق الذي قامت عليه الأرض والسماء، ولذلك يدخل الناس فيه زرافات ووحداناً على الرغم من كل ما يتعرض له من تشكيك وظلم وعدوان.
والحياة ابتلاء، وواجب المصلح أن يقدم ما يستطيعه ولا يتكلف ما لا يطيقه، وأن يحبب الناس بالإسلام لا أن ينفرهم منه، قال تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة:286).
وهذا الدين في البداية والنهاية هو دعوة للسعادة الأبدية، والحساب والعقاب هو في الآخرة وليس في الدنيا، والسعيد من وفقه الله إلى درب الفلاح، والتوفيق يكون بنور يقذفه الله في القلب، ولا يكون بحد السيف، إذ لا يعتد بإيمان أو بكفر جاء جاء بالإكراه، قال تعالى: (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الاسراء:15).
ولا بد أن نشيد في خاتمة هذا المقال بما كتبه الأستاذ الباحث جودت سعيد في كتابه القيم (مذهب ابن آدم الأول) مؤكدا على ضرورة نبذ العنف والعدوان بين الناس، وإذا لم يكن ثمة خيار للمرء بين أن يكون ظالما أو مظلوما، فالمظلوم (هابيل) أحب إلى الله من الظالم (قابيل)، فليحذر العاقل عن مبادأة الآخرين بالعداوة، وليعلم أن أفضل الصدقة كف الأذى عن الناس، وخير أسلوب للدعوة هو التحبب إلى الآخرين والابتسام بوجوههم، وبناء جسور التواصل معهم، ليكون الرفق والحوار هو السبيل إلى القلوب والعقول، ولا تكون لغة شريعة الغاب هي لغة الناس، حتى لو كان الطرف الآخر هو صاحب عقلية الإقصاء والإلغاء، فليبق المسلم هو صاحب عقلية الحوار والانفتاح والالتقاء والبناء، لأنه صاحب خطاب متحضر، وينتمي لخير أمة أخرجت للناس.