قراءة في كتاب "المسرح العربي" للناقد د. مدحت الجيّار
ذكرني هذا الكتاب بقصة عنوانها: "بحث ابن رشد"، سخر فيها بورخس من فيلسوف العرب آفيروس أو ابن رشد الذي حيره مصطلحان ينتميان لمعجم المسرح هما: "التراجيديا- الكوميديا" أثناء قراءته كتاب "فن الشعر" لأرسطو.
استغلق على الفقيه "المسلم"، وهو الشارح الأرسطيّ الأكبر، الذي ينتمي لثقافة لا تعترف بفن المحاكاة أو التشخيص (بل وبالفن بعامة)، إدراك المعنى الحقيقي لمفردتين متداولتيْن بكثرة في حضارة الإغريق التي نبغت في هذا الفن، وفي سواه، ونظرّت له وأنشأت المسارح المدرّجة في الأجورا عند سفوح الأوليمب. الكتاب هو "المسرح العربي" لأستاذ النقد الأدبي د. مدحت الجيّار، صدر في مصر عن سلسة "كتاب الجمهورية" عد يوليو 2006. وللمؤلف في مجال النقد الروائي والمسرحي أكثرُ من عشرين مؤلفًا. هذا البحث التوثيقي المعمّق هو محاولةٌ للرد على سؤال تقليدي هو: هل عرف العرب، أو المسلمون، المسرح؟ وينطلق من رؤية تخالف بورخس إذ يتتبع جذورًا قديمة ترهص ببدايات دراما مسرحية لدى العرب القدامى. سواء تلك الجذور التي انبتّتْ ولم تنمُ، أو تلك التي امتدت وأثمرت فروعًا حتى التحمت بالشكل المسرحي الغربي كما وصلَنا مع الغازين أو المبشرين ورجالات الدين في الشام ومصر.
ويمهد المؤلف بتبيان إرهاصات الدراما المسرحية الأولى في العالم لدى الكهنوت الفرعوني، ونشأة المسرح اليوناني القديم في رحاب الأسطرة الألوهية الأثنينة، وخيال الظل في حضارتي الصين والهند، مما اِتُخِذ كأداة سياسية توجيهية أو تربوية أخلاقية تعلم المواطن القيم والقانون على نحو غير مباشر. على أن التأخر في ظهور مسرح عربي يعود إلى أسباب عقائدية إسلامية سُنيّة لم تُبح كشف الصراع الدراميّ بين الإنسان والقدر، لأن القدر هو الله بعرفهم، وبالتالي فكل شيء مقدور ومرسوم سلفا وما على الإنسان إلا الطاعة والامتثال للمستقبل الغامض الذي لا يدري عنه شيئا. وهو ما تجاوزته الثقافةُ الفرعونية واليونانية وغيرها من الثقافات التي انتعشت فيها فنون الدراما منذ فجر التاريخ.
الكتاب في مجملة رحلةُ إبحارٍ جادة داخل أضابير التراث العربي من أجل استنطاقه ببراعمَ وجذورٍ تبشر بميلاد ملامح، وإن طفيفة، درامية/حوارية تمهد السبيل للتطور نحو المسرح الذي عرفه العصر الحديث عند شوقي وعبد الصبور. والمؤلف يميز النص المسرحي بذاك الذي كُتب خصيصًا لكي يُمثل ويُشاهَد أمام جمهور، وليس كل نص يحمل دراما وحوار. وبذلك يتتبع رحلة النص التراثي المكتوب بلغة ذات طابع دراميّ من شأنها أن تتطور نحو الحوار والصراع لتعمل تدريجيًّا على تهيئة "المتلقي" الذي تربى على فن الشعر وحده لقرون عدة، لكي يدخل به في لجة جنس أدبي درامي غريب على ذائقته القارّة المطمئنة. حفل التراث العربي بأسواق الشعر والمطارحات التي يتسابق فيها الشعراء كما حفلت لياليهم بحكايا الحروب والأساطير والحب لكنها بعد لم تتطور إلى نص يُكتب للتمثيل. وطبيعة الحياة الجاهلية كبدوٍ رعويين نُقَّل وراء الماء والكلأ لم تمكنهم من الاستقرار الضروري لبناء دراما. وكان الشعر الغنائي هو الأنسب لوصف ملاحمهم الحربية والترحالية وإن خالطها شيءٌ من "الحوار" وشيء من "المناجاة" و"الحكي" وهي الأدوات الأساس للمسرحية. سوى أنها ظلت تيمات متفرقة تعوزها القصدية فلم تكتمل لتبني نسيجا دراميًا ناضجا. على عكس ما حدث عند اليونان حين تطورت قصائدهم الحربية إلى ملاحمَ ومسرحياتٍ مكتملة. لأن العرب أغرقوا في المديح والتفاخر بحروبهم وغزواتهم فظل شعرا أفقيا غير متنامي الحدث. وظل الحال هو الحال في صدر الإسلام، بل زاد الأمر أن واجه الشاعرَ نصٌّ مقدس وجد فيه كل مبتغاه من متعٍ وعبادة وفكر وبطولة وميتافيزيقا، فاختفت ألوان شعرية بعينها مما انتعشت قبل الإسلام مثل الغزل والفخر، ووئِدت أيّةُ فرصةٍ لاحت في الأفق إذ استسلم الشعراء للموقف السلبيّ للدين الجديد من الفنون والآداب بعامة. وظل العمود الخليلي محافظًا على جموده عدا بعض الهزات في القالب والديباجات.
على أنها بعد مقتل عثمان، ثم توالي مسلسل الاغتيالات في الدولة الإسلامية من عليّ ابن أبي طالب إلى الحسين بن علي، بدأت القصيدةُ تأخذ الشكل الدرامي أكثر وتُحمّل بمضامين ذات طابع صراعي تصويري سيما في وصف مقتل الحسين المأساوي. سوى أنها افتقرت إلى "النموذج" الذي تحاكيه كي تستوي كيانًا دراميا سويا. ذلك أن حركة الترجمة لم تكن قد بدأت كي يتعرف العربُ على المنجز الأدبي الإنساني الذي كان أخذ مداه في الحضارات المجاورة آنذاك. إضافة إلى أن المتلقي والشاعر، كليهما، كانا يجدان في القصيدة الغنائية غناءهما ولم يكونا بعد في حاجة إلى جنس أدبي منافس. ثم بدأ الشعرُ في العصر الأموي في اتخاذ الشكل الحكائي القصصي أو الحواري مثلما عند عمر بن أبي ربيعة وقصائد مقتل الحسين عند السيد الحميري. وعليه فقد سمح هذا العصر بظهور الحكاية الشعرية لكنها لم تتطور إلى نص درامي مسرحي عربي. أما في العصر العباسي المشرق بنور الترجمات فقد انتعش الشعر كذلك وبدأ العمود الخليلي في الاهتزاز بعنف ما أنتج بذورا درامية حكائية وموشحات تتناول حياة القصور العباسية الباذخة والأسواق لكنها لم تتمخض أيضا عن نص مقصود به التمثيل. سوى أن هذه الطاقة الحكائية قد تمخضت عن فن القص والرواية وظهرت السيرة الشعبية، لكن كل هذا ظل يؤلَف لكي يُحكى لا كي يُشاهد. ومع انهيار الخلافة العباسية الأولى المزدهرة وبداية انقسامها وتشظيها في عصورها التالية بدأت في الظهور فنون شعبية جديدة تتمرد على عمود الشعر العنيد وتنتصر أكثر للدراما مثل فن "البابة" وخيال الظل والتعازي الشيعية. ويواصل الكتاب، الذي تجاوز الثلاثمائة صفحة من القطع المتوسط، رحلته الممتدة منذ الجذور التراثية الأولى ليمر بالروافد الشامية والمصرية ثم المسرح العربي الحديث وروافد التأصيل من ملهاة مارون النقاش إلى غنائيات القباني ثم المسرح السياسي الواقعي عند يعقوب صنوع. ثم يتناول المسرح الشعري عند شوقي ومسرح باكثير ثم مسرح الشرقاوي الشعري. لينهي قوسه الرصدي بمسرح عبد الصبور، ويقوم بتحليل عدد من مسرحياته الشعرية.
ويخلو الكتاب من أي ذكر لمسرح الماغوط أو سعد الله ونوس أو أي من التجارب العربية الحداثية اللامعة. ولما عاتبت المؤلف على ذلك قال إن هذا الكتاب اقتصر على التجربة المصرية وإنه يتوفر حاليا على تأليف كتاب عن المسرح العربي بعامة.