في كبار المثقفين من يكونون
كالكتب في المكتبة، أعلاها وضعاً أقلها فائدة ونفعا"
(بول ماسون - كاتب فرنسي)
في كتابها "لغة من صنع الرجال" كشفت ديل سبيندر مدى الإهمال والتهميش الذي عانى منه الأدب الذي كتبته النساء، وتقول سبيندر في هذا الكتاب الذي يعتبر من الكتب النقدية القليلة الباحثة في الأدب النسائي إنه "بينما ورثنا المعاني المتراكمة للتجربة الذكورية، فإن معاني وتجارب جداتنا غالبا ما اختفت من على وجه الأرض" والحق أن هذا الكلام لا يصعب إيجاده في أي أدب وأي ثقافة في العالم القديم والمعاصر وفي الشرق والغرب على السواء، إذ تؤكد الكاتبة فريجينيا وولف في السياق نفسه بأن "تاريخ إنجلترا هو تاريخ الخط الذكوري وليس تاريخ الخط النسوي" والأمر نفسه يمكن الوقوف عليه في كتاب "الجنس الحائر - 1949" الذي كتبته سيمون دو بوفوار. هذه الذهنية في التعامل مع الأدب النسائي ما زالت للأسف حاضرة وبقوة في العالم بأكمله وتحديدا في العالم العربي حيث لا ينظر إلى الأدب النسائي على أنه أدب جيد أو مهم، فعبارة "امرأة عربية كاتبة" لا تنزل في سياق الثقافة العام سوى بمنزلة الاتهام بعدم وجود أي أثر إبداعي ظاهر أو باطن ولا حتى في المواضيع التي تختارها النساء للكتابة فهي غير ذات أهمية بحسب الكثيرين من المثقفين الذكور. وقبل الدخول في صلب الموضوع أود القول إنه لا يمكن النظر إلى أدب النساء بشكل متساوٍ، فليس كل كاتبة هي مبدعة، الشرط الأساسي هو النظر إلى عملها ودراسته قبل إصدار أي رأي مبني على التمييز المسبق ضد الكتابة النسائية، فالنساء متهمات قبل أي شيء بأنهن يتناولن موضوعات غير ذات أهمية مثل الأمومة والحب والرومانسية فيما يكتب الرجال في الفلسفة والفكر والقضايا المعقدة مثل الحروب والسياسة وأثر الزمن وهذه قضايا مهمة بل بالغة الأهمية مقارنة بغيرها، ولكن من بوسعه القول إن قيادة جيش أو إدارة مؤسسة عابرة للقارات في زمن العولمة الذي نحن في خضمه أعمال أكثر أهمية من إنجاب طفل وتربية جيل والكتابة الرومانسية، فالكاتبة المرأة تماما مثل الكاتب الرجل، لأن واجبها الأخلاقي والفكري يجعل منها شاهدة على زمنها ومنه وفيه حتى لو كانت شهادتها قصة قصيرة أو رواية أو بحث اجتماعي وذلك بسبب أن دور المرأة في العالم تخطى منذ زمن بعيد البدهيات الاجتماعية والنظرة غير السوية لها كامرأة، لذا فإن أي تسوية بين الرجل والمرأة لم تعد خارج منظومة المفاهيم المعاصرة، ولم تعد هذه التسوية قائمة فقط على مبدأ التحرر الأخلاقي وهو المصطلح المرادف في أدبيات مجتمعنا للفساد الخلقي، بل إن التسوية أصبحت اليوم رديفا حيويا لحياة كاملة دون أية تعقيدات، بحيث إن المرأة تقف عمليا على رأس الهرم الاجتماعي عدا عن كونها موجودة في كافة ثنيات الحياة لا بوصفها الأم والزوجة والحبيبة فقط بل لكونها عاملاً من عوامل ارتقاء المجتمعات التي تنبذ التمييز ضدها.
في كتابه "representations of the Intellectuel" يرى إدوارد سعيد (المفكر الفلسطيني الأميري الذي رحل الأسبوع الفائت) يرى، أن المثقف رجلا كان أم امرأة هو إنسان صاحب رؤية استقلالية واضحة عن مراكز السلطة ( الاجتماعية ) وهو معارض ويتساءل دوماً عدا عن كونه يسعى لتحطيم الأفكار المقبولة وتلك التي تختزل الإنسان في قالب واحد وصفة واحدة. فهذا الأمر يوقف من نمو الفكر وتفاعله، لذلك فإن المثقف ودون أي تمييز بين الجنسين قادر فعليا على تمثيل نفسه والعالم من خلال خطابه النقدي والروائي والشعري والفلسفي بالكلمة فقط، فالمثقف ملتزم والمثقف أيضا يخاطر لكي يخلق "مساحة متعددة" بحسب تعبير فرنسواز كولان، إذ إن نوع الجنس لا يؤثر وحده في عملية الكتابة، بل إن التأثير يأتي بالدرجة الأولى من تركيب الشخصية الأساسية والنفسية للكاتب وقدرته على التفاعل مع الثقافة والبيئة الاجتماعية والمحيط البشري والجمالي (الطبيعي) الذي يعيش فيه، وبذلك فإن المفهوم القائل بأن الأسلوب هو الرجل ينسحب كذلك على المرأة لنقول بأن الأسلوب هو الرجل والمرأة معا وسوياً، وهذا ينفي معظم الأعمال الأدبية والنقدية تحديدا في المكتبة العربية التي يقول بعضها بشكل غير مباشر ومباشر في أحيان كثيرة وأيضا غير دقيق في التوصيف إن النساء الكاتبات هن غير موجودات وإن وجدن فهن على الهامش دوماً، وإن النساء على مدى التاريخ كن يتحدثن ويثرثرن فيما كان الرجال يكتبون ويبدعون ويقولون بالكلمة مالا طاقة للنساء على قوله.
وعلى هذا، فإن خلق فضاء مغلق تعيش ضمن جدرانه العالية المرأة العربية الكاتبة لم يتحدر فقط من الطقوس القمعية داخل المجتمع العربي المجرد، والدليل على ذلك وجود الكثيرات من المبدعات في العالم العربي في كافة الميادين حتى في بعض المجتمعات العربية المنحازة لصالح الرجل ضد المرأة، فطقوس القمع الذكوري للمرأة جعلت نفسها الحارس الأمين على الأنوثة التي تسعى لا إلى التحرر من قيم دينية هي في الأساس متسامحة تجاه إعطاء دور أساسي في المجتمع للمرأة بل تسعى النساء إلى التحرر من سطوة العقلية الذكورية التي لم تزل تعتبر أي عمل للمرأة خارج سياق دورها الاجتماعي التاريخي الضيق عملا غير لائق بها ولا تقدر على التمكن منه.