الكتابة شيء عظيم، وهي عملية خلق وإبداع وحياة، ودليل على الأمم الحية التي تمارس نشاطها المتكامل الذي أراده الله لها خارج حدود الجسم والحياة البدائية البسيطة كحياة الطفيليات أو وحوش الغابات، والعالم العربي بحمد الله لديه رصيد كبير من الكتاب والكتابات من فجر الإسلام وحتى اليوم، ومع ظهور الطباعة والشبكة العنكبوتية والصحف الإلكترونية صارت الكتابة ميسرة للجميع، وهذا حق للجميع، كما أن التعليم حق للجميع.
ولكن في ركام هذه الكتابة ضاعت الكتابات الإبداعية ضمن ركام الكتابات التجارية والساذجة وكتابات الاجترار العلمي للتراث أو الواقع
ما أكثر ما يكتب اليوم!؟ وما أقل النافع والمبدع فيه!؟
ويعود ذلك لعدة أسباب منها: حب الشهرة، أو الكتابة كتسلية، أو تحويلها لمهنة كما هو حال الصحفيين، والنادر من يكتب حبا للمعرفة بحد ذاتها، وعشقا للإنسانية كي ينير لها شموع الفكر في مسيرها الطويل.
ولكن أهم سبب لتراكم الكتابات اللاإبداعية واللاخلاقة هو غياب النقد العلمي والموضوعي عن الساحة الفكرية.
أين هم النقاد الذين يمارسون دورهم في حياتنا الثقافية والفكرية بأمانة وشجاعة؟ أين هو النقد الذي يعطي لكل مبدع موقعه في حياتنا العلمية والثقافية؟
عندما كتب ابن سلام الجمحي طبقات فحول الشعراء لم يتجاوز هؤلاء الفحول ثمانين شاعرا في العصر الذهبي للشعر (الجاهلية والإسلام) وأضاف لهم عددا من شعراء المراثي والقرى واليهود. ليتجاوز المجموع مئة شاعر بقليل.
واليوم لدينا موسوعات شعرية تتحدث عن آلاف الشعراء في العصر الحديث، فهل كل من كتب قصيدة صار شاعر كالمتنبي أو نزار أو أدونيس؟
لقد غاب النقد عن الساحة فضاعت الأصوات الأصبلة بين الأصوات الدخيلة.
وساهم الإعلام في الترويج والتهريج لكل شيء إلا الإبداع
كم من المبدعين الذين لا يعرفون من أين تؤكل الكتف، فصاروا أحلاس بيوتهم، لا يعرفهم الناس وهم أولى بالنجومية من غيرهم الذين ساهم الإعلام في تلميعهم وتزيينهم وتقديهم كعرائس ـ وهم ليسوا أكثر من دمى !
إن إحياء النقد ضروري جدا
حتى لا يتحول الناس عن قراء العربية إلى قراءة الإبداع في لغات الأمم الراقية.
إن النقد هو الذي يكشف الدخيل من الأصيل في عالم الفكر والفن والجمال على حد سواء.
وإحياء النقد صار عملية ماسة في طوفان النتاج العلمي والأدبي الذي يقع معظمه خارج عملية الإبداع والذوق والأخلاق، ولكن عمليات التجميل والتزيين والترقيع أسهمت في رفع أدب لا يستحق الرفع، وفي خفض آخر كان هو أولى منه .
أخيرا قال المتنبي شيخ الإبداع في تراثنا العربي:
أجزني إذا أنشدت شعـــــــــرا فإنما
بشعري أتاك الآخرون مـــــــــرددا
ودع كل صوت غير صوتي فإنني
أنا الصائح المحكي والآخر الصدى
رحمك الله يا أبا الطيب، لقد كنت في عصر العمالقة فلم يعجبوك، فكيف لو رأيت واقع الثقافة والأدب اليوم!