يجـرُّ موتـه بـهدوء: قراءة في المجموعة الشعرية "يجر وقاره بهدوء" للشاعر العراقي المقيم في أمريكا فرج الحطاب
ولد فرج الحطاب شاعراً على الحافة الثانية لحرب الخليج الأولى، وتنفس أجواء الحرب الثانية الخانقة في وطنه الأول العراق، فقصائده الأولى التي نشرها في مطلع التسعينات تشي بولادة تجربته الشعرية النثرية، وسمحت لهذه التجربة أن تنضج وتظهر، ثم تتسع آفاقها في مواطن الغربة.
وقد يكون احتفال نصوص الشاعر بالحرب وأدواتها مُسوِّغاً لهذه المقدمة المبتسرة عن الشاعر وشعره، فمن يدقق النظر في هذه النصوص لا يعدم أن يصطدم بالألفاظ والصور الشعرية التي تأخذ من أجواء الحرب عناصرها الأساسية، وتتحدث عن الموت الذي هو رديف الحرب، وهذا ما نجده متجلياً واضحاً في مجموعته الشعرية (يجر وقاره بهدوء) إذا أنعمنا النظر فيها.
والشاعر لا يُلام على تكرار المفردة الواحدة، أو الدوران على الصورة نفسها أو أجزاء منها على وفق ما قدَّمنا من حياته الزاخرة بمشاهد الحرب، المتلونة بالدماء ورائحة الموت اليومي، فشعره التسعيني مترشح من حياة حرب طاحنة طويلة عاشها الشاعر استمرت شراستها ثمانية أعوام عجاف، تبعتها حرب أشد طحناً وفتكاً ونتائجَ مع أنها أقصر عمراً، ومن نتائجها المباشرة ما نعلمه من هجرة الشاعر نفسه، وما لا نعلمه نستطيع توقعه، وهو ليس بالشيء اليسير على أية حال.
أنا- الشاعر:
ويكثر الشاعر كذلك من استخدام أناه ظاهراً ومستتراً، وما يتصل بهذا الأنا من ضمائر التملك، وما يتشكل به من الضمائر الأخرى الدالة عليه، بما في ذلك ضمير المخاطب الذي يشير من خلاله إلى أناه، ونسبة الأفعال إلى نفسه، ولاسيما الأفعال المضارعة، وهي كثيرة الورود جداً لديه، وما ذاك إلاّ إمعان بالتعبير عن استمرار تأزمه والإحباط الذي يحيط بروحه المتهالكة تحت وطأة الأزمات المتتالية، ولعلَّ في قوله: (أنا العالق بين انحسارين.(ص9) تعبيراً واضحاً عن هذا.
وفي المجموعة استخدامات لضمير الجماعة، ولكنه يدلُّ، أينما ورد على ضميره هو، لأنه واحد من مجموع، أو جزء من كل، فيخصه كفرد ما يعم الجميع، كما في قوله:
(ماذا نصنع برؤوس يدخلها الحلم عنوة/فتفيض..؟/ ماذا نصنع بالمتساقط من أيامنا..؟/ لنعيد لون الزمن.(ص215).
الوطن- الغربة:
وتستشري الغربة في نصوص الشاعر بوصفها نتيجة من نتائج الحروب المتتالية، أو هرباً من واقعها المفجع، مع أنه يؤمن بأنها بداية نهايةٍ كما عبَّر عنها في هذا المقطع أوضح تعبير:
مرحباً أمريكا/ سأقدم القرابين تحت نصب الحرية/ سأقدم الأضاحي احتفاء/ بالحيرة/ ودفعاً للأمنيات.../ صباح الزنوج يا وطني/ أيها البعيد أيضاً.../ ها أنا عارٍ من التأريخ/ وحمورابي عاطل عن تلميع مسلته/ بينما نبوخذ نصر بلا جنود/ أو عربات/ حتى بلا مجد.../ منشغل بتسريح لحيته/ ويحلم....
عارٍ من الحضارة/ ربما نسيتُها في بطون الكتب/ أو عند التماثيل والجرار/ المحطمة... (ص52-53)
وهكذا يتبدَّى للشاعر أن مجرد وجوده في مهجره يعني سقوط الحضارة التي ينتمي إليها، في ذاته في الأقل، لأنها حضارة وطن غادره، وانتهى عهده به، ولو مكانياً، غير أنه سقوط غير مَرضيٍّ عنه، بدلالة لهجة الاستهجان التي ابتدأ بها هذه القصيدة، ثم تقرير الواقع الفاجع المرير المتخيَّل في نهايتها:
هنود بلا ريش/ وإسبان بلا كيتار/ وعراقيون بلا وطن.(ص55)
كما تعني الغربة لديه سقوط الذات أيضاً، فليست هي امتيازاً، ولا فرحة ولو عابرة، ولكنها ضربة قاتلة لتاريخه الشخصي، فكأنه في ذلك استبدل الرمضاء بالنار:
ما الذي اختلف الآن؟/ استبدلنا الكراج بالمطار/ الأصدقاء بالذاكرة/ والجوع بفقدان الشهية/ من بغداد إلى أريزونا/ صباحات تتهشم/ كحادث على طريق المرور السريع(ص19)، مع أن ذلك لا تعني انقطاعاً عن الوطن الأول، بل التعلق به، والتطلع إلى أخباره: (لماذا أعيد قراءة الجغرافيا/ وأنا أسمع أنين بلادي/ وأرى حرائقها من آخر العالم....(ص12)، بل يحاول الشاعر أن يعيد صياغة المنفى ليتشكل عراقاً بملامحه المعهودة في البدء والمنتهى ليصلح للعيش فيه، وأنى له ذلك؟:
أيها الجنوب.../ سأرسمك عند حدود أريزونا/ سأطلق أسماءك ثانيةً/ عسى أن تفقس في لحظة حنين.../ سأطعِّم الصبير بالنخيل/ ربما يولد "الهور" من جديد/ ويرتفع القصب.(ص54)
ولعل قصيدته (أمي) أكثر القصائد شجناً وتأججاً، فقد أودع في حضرة أمه ما يحمله الابن البار من عوطف جياشة، وأحاسيس متفجرة طاغية، من خلال خطابه إليها من الأصقاع النائية، ومحاولته تعميق البوح عن غربته الموجعة حد الموت، وحاجته إلى دفء أمه-وطنه الأصلي:
أمي.../ من أين الطريق إلى بيتي؟/ ما زلت راغباً في النوم/ أنتظر دفئكِ.../ الأشياء العاطلة وحدها/ تقودني إليكِ.../ ماذا أفعل بالذاكرة/ ببقايا العائلة/ الوقت ينفد.(ص110) حياتي تزخر بانقراضها/ وأصدقائي عاطلون عن الحب/ أمي لست حزيناً لأنني نسيت البوصلة../ العالم بلا جهات/ وها أنا أصل بلا زمن/ أراقب الطريق/ وأنتظر دفئكِ.../ ما زلت راغباً في النوم.(ص111)
الحرب - الموت:
أما الحرب ورديفها الموت فلا تكاد قصيدة من قصائد هذه المجموعة الحاشدة تخلو منهما أو من أحدهما أو ملازماتهما لفظاً أو معنى، وبهذا نُعرج على ما بدأنا به حديثنا هنا، ونؤكِّد أن قصائد فرج الحطاب لا تنبئ عن انفراج أزمةٍ، أو وشوك انبلاج صباح، أو اقتراب أمل، بل هي تعزيز لماساة تحاول أن تجسدها بطرائق ومعانٍ متعددة، حتى يمكن القول بأن قصائد هذه المجموعة جميعاً تتعاضد لترسم لوحة واحدة لا يجمع بينها غير ألون قاتمة هي ألوان الغربة والألم والضياع واليأس والحسرة، ثم الشعور بالموت في الحياة.
وهو يتفنن في استخدام أدوات الحرب في شعره، وكأنه يحاول أن يوثقها بكل ما يستطيعه من إخلاص، لا لأنه يؤثر الحرب على السلام، أو يحبذ القتل ويسأم الحياة، بل لأنه يرفضها رفضاً جعلها تدور في مخيلته وتخرج من عباءة أفكاره وألفاظه وأوصافه شاء أم أبى، بإرادةٍ أم بغيرها، ليعظِّم إساءتها وفضاعتها، ويفضح بريقها الخادع:
غبار يتسلق أيامي/ كجندي مخدوع/ ببريق حروب/ وبشظاياه المعلقة/ في الذاكرة....(ص19)
حين تهوي الفؤوس/ سأبدل الحلم بالحروب/ والشراع بمدافع عملاقة/ والكنوز بالشظايا.../ وحين أهوي بالفؤوس/ سأحلم بالحرب/ تتحول إلى حياة/ والمدافع إلى
أنابيب مجاري/ والجنود إلى ذكريات/ والشظايا إلى مقبرة.... (ص27-28)
وهو يتحدث عن الحرب وكأنه واحد من ضحاياها، أو بوصفه كذلك فعلاً ابتداءً من التدريب والاستعداد لها:
1- وببسالة أتقدم لأحصي الخطوات،/ إلى الأمام، إلى الوراء، قِفْ.../ ما الذي يذكرني بساحة العرضات؟ (ص66)
2- هكذا..../ أرى حياتي تأكلها الحروب/ إنني الآن أشمها فقط/ ولا أعيشها/ أبحث عنها ولا أمارسها.(ص71)
3- وأنتم/ تفكرون/ بحروبٍ/ أخرى.../ رغباتكم لا تخصني.(ص73)
4- ظلي أبقوه رهينة/ بينما جسدي/ ترتديه الحروب... (ص80)
5- ماذا نفعل بالخيول.../ أحلامنا/ تجرها/ العصافير...(ص88)
6- وأنا أذبح الأصدقاء/ وأفرغ منذاكرتهم الحروب.(ص95)
7- هذا الرصاص/ الرصاص الذي يزأر/ يبحث عن رؤوسنا/ كي يقبلها... (ص104)
8- أحلم بحروب نووية/ وأصدقاء ملوثين. (ص117)
9- ماذا أصنع بالأخطبوطات
10- وهي تلوث حياتي/ كأي حرب؟.(ص121)
11- وكنت أضحك كقنبلة. (ص130)
12- لم نكن هادئين/ كانت الحرب تكشّرُ/ والنار تنتفخ بحماس يتجدد. (ص138)
13- المسدسات تطير/ النفايات تطير/ لكني أحلّق/ في العمق/ ولا أسقط..(ص140)
14- في ليلة سابقة لحلمي الأول/ رأيت خيولاص تتسول/ رأيت جنوداً يبيعون بساطيلهم/ وخوذاً تبحث عن رؤوس.(ص150)
15- وحيدون.../ نمدد أيامنا فوقَ السنوات/ وعلى أرصفة الشوارع/ ننسج ذاكرة التأريخ/ نعشق كل شيء/ ونكره التفاصيل/ هكذا علمتنا الحروب....(ص159-160)
16- كل السيوف الماضية/ السيوف الباشطة/ السيوف التي لم تنثنِ/ أكلتها المتاحف...(ص169)
17- لكي أعطيك اسماً وأدعوك حرباً.../ يجب أن تبتسم بوجه الثالثة والنصف صباحاً/ حين تلسعك أعشاب الصبح فتحجب رؤوسها/ عن التنفس،/ لتقف/ أمام الرهط محشوراً بأشياعكَ الأسطوريين./ سلام أيتها الصواريخ/ الأنيقة،/ وليكن السجود أمام صرختك الناسفة للطقوس،/ ضحكة الحديد وهو في ابتهاجٍ وراء الطوابير.
18- ما نذكره أن شتاءً جميلاً لم يمر أبداً/ بعد أن مزقت السيول أوراقنا المخبأة/ في صناديق العتاد.(ص196)
19- أجسادنا التي توزعها الحروب/ بين الخنادق/ وصناديق الفراغ،/ توهمنا بالموت. (214) (تنتهي المجموعة كلها عند الصفحة 217)
إن توزع معاني الحرب وأدواتها على تضاعيف المجموعة بهذا الشكل لهو دلالة قوية على مدى تأثر الشاعر بموضوعة الحرب، ومدى انصهار شعوره الباطني بحيثياتها جملةً وتفصيلاً، حتى ليمكن أن نعده من ضحاياها باستحقاق تام.
وأما الموت فهو شديد الحضور كذلك في نصوص هذه المجموعة، وهو موت ليس من ورائه طائل، ولا يترشح عن بطولة، ولا يشير إلى مجد، وهو أحياناً يشبه فعلاً لا إرادياً متكرراً، وهو بالتالي موت عراقي وحسب!:
1- أريد أن أنام/ لكني لا أعني/ الموت...(15)
2- حين خرجت إلى الحياة مثلاً/ دخلتها/ دون عناء/ وكذلك حين خرجت إلى الموت/ أبصرتُ حياتي.(ص18)
3- وكأن ما بقي من مشهد الموت/ يتفنن في اجتياح أخير/ ماذا إذن كل هذه الأناشيد السخية لتمجيد الرحيل...؟.(ص29-30)
4- ثلاثون موتاً في الحقيبة/ والشرطي يبحث عن حياة/ مهربة...!!.(ص39)
5- المزيد من الظلام/ لأغطي قامة الوحشة/ وجبالاً لا تعرف غير موت الحجر.(ص39)
6- ليل آخر/ أمام مقصلة النهار/ والمصائر المعلقة/ تغتالها الريح.(ص49)
7- لا أحد يعزف الموت –لحننا الخالد-،/ طريق الأبطال/ والمتسولين كذلك...(ص67)
8- وأنا رقيق كنسمة باردة/ أو شاعر يتألق.../ لكنه كرأي مهمل/ يصرُّ دائماً على الموت...(ص72)
9- ستبقى كلماتنا تحلق/ من رحم العراق/ إلى كوكب آخر في المجرة.../ نحن الخارجون من التوابيت/ ومن أكوام الرماد/ نزيل غبار الزمنة...(ص106-107)
10- لست شجاعاً لعزلك / أيها الموت.(ص121)
11- أيها الموت سنعلقك/ كتذكار.(ص132)
12- أيها الشاعر/ متى تموت...؟ (ص133)
13- كان الموت يباغتنا/ فنبتكر حياة لا تذكرنا بالآخر.(ص170)
14- لستَ جميلاً أيها الخريف/ بما يكفي لإرجاع جُملٍ/ هربتْ من زفرة الموت
/كانت تقفز مذعورة تبحث عن موضعٍ/ لا يموت/.(ص196)
14- هاربون من التوابيت/ ومن جحور ابن آوى/ خارجون من الصخور/ ومن قبور لاكتها ألسنة الماكينات/ ننفض عنا غبار الحروب الأخيرة.(ص214)
ولعل فرج الحطاب تمادى في احتفائه بالموت إلى درجة استعذابه له!، كما في قوله: (ها أنا أحلِّق كبالون/ ألوِّح لسنيني.../ لستُ يائساً/ لكنني فرِحٌ بغيابي.(ص108)
الحياة- السجن:
إن احتشاد صور الموت والفاظه في هذه المجموعة لم يدع للحياة بصيصاً يتسلَّل إلى بعض ثناياها، بل هو حريص على أن يرسم صورة أخرى للباقي الهشِّ من حياته، وليست هذه الصورة سوى سجنٍ يتراءى له في أشكال مختلفة، فقد يكون مكاناً كغرفة نومه، أو سجناً مفترضاً، أو إحساساً كإحساسه بالاختناق، أو ظلاماً موحشاً:
1- المزيد من الظلام/ لأفرش طاولة المساء/ بحنون يتقد/ ووحشة تعزف الألم.(ص38)
2- الصباح/ وهو يحلق ذقنه/ كان يستعد للفطور/ حين رميته/ من زنزانتي/ أقصد/ حجرة نومي...(ص82)
3- أحتاج إلى أنف مثقب تماماً/ ورئة فيل/ أو ديناصور/ لكي أشم الهواء...(ص84)
4- الظلام الأول:/ مثل شجرة من حجر/ معلقة في الهواء/ مثل عربة طين/ تسحلها الرياح/ مثل زفير يخرج من فم الجهات/ أهبُّ.../ مثل حديد مهمل/ أتآكل..../ مثل صخرة متورمة/ في صحراء مبهجة/ أتعرى..../ مثل تراب القبور/ أنزاح برفقٍ/ برفقٍ ايها الشواهد/ استقبلي أشعة الحضور/ مزدحمة بقوافل نور.../ يتوهج.(ص208-209) الظلام الخامس:/ الحارس في السجن/ لإهماله بالواجب.(ص211).
الحقيقة- المجاز:
إنَّ فرج الحطاب آثر أن يحتطب للمجاز وقوده المتأجج المؤثر في شعره، ليعوضَ به عن الحقيقة المريرة، فهو لا ينفكُّ يعوِّل على الاستعارة والتخييل، وينشد الاستخدام البلاغي في تراكيبه الشعرية ومعانيه، ليخرج صوراً شعرية يستند إليها في إبداعه ويجعلها دالة عليه، وهو في هذا إنما يؤكد قدرته على التخلص من مأزق النص الشعري المنثور، وهو مأزق لا يفلت من سطوته إلا القليل من كُتَّاب قصيدة النثر، فضلاً عن أشكال الشعر الأخرى، أو لنقلْ إنه انتبه إليه وعمل من أجل التصدي له.
وهو مولع كذلك بالتشخيص، وتبادل الحواس طلباً للطرافة، غير أنه لم يتعدَّ حاسة الشم، ومن ذلك قوله: أنفي استبدلته بالذاكرة/ لهذا أشم ذكرياتنا وأحبسها.(ص10)، وقوله: (ما زلتُ أشم حياتي.(ص22)، وقوله: لم أرَ السواد/ لكني شممته.(ص155)، ولعلَّ ذلك مما حفرته رائحة البارود في عقله اللاواعي حيث امتلأت رئتاه بها جدنياً في ساحة قتال، أو مواطناً في مدنٍ تتناهشها الصواريخ.
إنَّ فرج الحطاب يقف في مقدمة الشعراء الذين شهدوا الحرب وعانوا ويلاتها، ثم جعلوها حاضرة في ثنيات نصوصهم، وأخلصوا لها كل الإخلاص موضوعاً شعرياً لا ينقطع أثره، ولا يجف له معين، وهم أولئك الذين ظهرت لهم كتابات في أواخر الثمانينات، أو أوائل التسعينات من القرن الماضي، وشكَّلوا جانباً مهماً من المشهد الشعري في العراق، أما هو فقد جعلته الحرب مغترباً يجر موته بهدوء!.
..........