"لكل حرب لغة، ولكل لغة قاموس، وقاموس الحرب متسع باتساع مآسيها، ولكل مأساة حكاية ولكل حكاية عنوان. وقت الحروب يجب أن يضحي الجميع وأن تختفي لغة الأنا، فإنها إذا ما ظهرت فستصبح العواقب وخيمة ولو على مر السنين".
"ألبرت" عامل التذاكر في محطة القطار الليلية في مدينة لندن، دائمًا ما يعمل ليلاً على الرغم من أن له الحق أن يبدل ورديته شهريًّا ولكنه لم يطلب ذلك أبدًا، هو شخص منطوٍ وطيب جدًّا لدرجة مخيفة، سلبيٌّ إلى أبعد الحدود، يخاف من أي شيء وكل شيء.
يعيش "ألبرت" مع أخيه وزوجته وابنهما الصغير ذي التسعة أعوام "فريد"، وهو لم يتزوج إلى الآن، ودائمًا ما يغلق عليه بابه ولا يجلس مع أخيه وزوجته كثيرًا، حتى ابن أخيه لم يكن يتكلم معه كثيرًا، بل على النقيض لم يُكِنّ فريد لعمه ألبرت أيَّ احترام أو تبجيل، بل كان يراه ضعيفًا وخائفًا وكسولاً.
"هتلر" وحلم "رايخ" الألف عام، بدأت الحرب العالمية الثانية في الظهور بعد الحرب الألمانية البولونية للسيطرة على مضيق "بولونيا" ومدينة "دينتغرى" وضمهما للإمبراطورية الألمانية، وبدأ "هتلر" في تنفيذ مخططه الجهنمي للسيطرة على أوروبا، وهبت أخبار الحرب على العالم كالصاعقة؛ لأن الجميع يعرف أن هذه الحرب ليست كغيرها بل إنها بداية النهاية.
أصبحت بريطانيا في مأزق بعد أن أعلنت عن دخولها في الحرب وقد انهزم جيشها في فرنسا، وإذا انهارت إنجلترا فستصبح كأنها مقاطعة نازية وستنهار الإمبراطورية البريطانية في العالم كله، وستتعاقب ثورات التحرير من الشرق الأوسط للأقصى لأفريقيا والقارة الهندية، فلا يوجد مفر، فكانت بريطانيا هي الأمل، وقد واجه الشعب البريطاني أسوأ الحروب ولكنهم حاربوا كالأسود، فقرر هتلر إبدال خطته التي كان أسماها "روتاري"، قرر أن يضرب الإنجليز في عقر دارهم، أن يضرب المدنيين في مدينة لندن أكبر مدينة في العالم، واهتز العالم للغارات المستمرة على "التايمز" وكانت الغارات لا تتوقف على لندن، وكان المدنيون يحتمون في الأنفاق ومحطات "المترو"، وشاع الخراب والدمار حتى أنه في يوم واحد ألقي 200 ألف طن من القنابل على المدينة واشتعلت أكثر من 1655 من الحرائق ومات أكثر من أربعين ألف مدني وجرح أكثر من 200 ألف ولم تعد لندن كما كانت أبدًا.
- ألبرت، ألبرت أين أنت يا أخي؟
- أنا هنا يا ريتشي، ماذا هناك؟
- سأضطر للسفر أنا وزوجتي إلى مدينة "كوفنترى"، وصلتنا أخبار أن ابن أخيها قد أصيب في الحرب.
- آسف لذلك، ومتى ستسافران؟
- غدًا، ونريدك أن تعتني جيدًا بفريد، فهناك خطورة عليه إذا ما سافر معنا.
- سأفعل.
- خذ يا ألبرت هذا السلاح.
- (ألبرت بخوف واضح): لا يا ريتشي، لا أستطيع أن أحمله.
- عليك هذا، سيدخل الألمان في أي يوم إلى لندن وعليك أن تعتني بفريد.
نظر ألبرت بخوف وأخذ السلاح من يد أخيه، وعلى مقربة منهما كان يقف فريد خائفًا والدموع في عينيه.
ودَّع ريتشي وزوجته فريد وداعًا كأنهما لن يرياه مجددًا.
فريد: أصحيح يا عماه أن الألمان سيحتلون لندن ويقتلوننا؟
ألبرت بحزن واضح: لا أعلم يا فريد، لا أعلم.
***
في اليوم التالي، خرج "ألبرت" إلى حدود لندن ليتجه إلى قرية "بنشزم"، وهى قرية جميلة تتسم بالهدوء وكانت في منأى عن الغارات الألمانية حيث كان يحضر لوازم المنزل والخضروات من هناك بسعر أقل، وأيضًا لأن الناس هناك كانوا يعرفونه.
- ألبرت، عماه ألبرت.
نظر ألبرت خلفه وقد كان في طريقه للعودة خارجًا من القرية، فوجد "رافى" الصغير ذا العشرة أعوام من عمره يتجه إليه قائلاً:
- عماه، خذني معك للمدينة.
نظر إليه ألبرت بسلبية، وقال:
- لكن والدك سيقلق عليك.
- أعدك أنى لن أتأخر، وسأعود بالباص قبل الليل، وقد توقفت الغارات على لندن قبل أيام؛ فلا تخف.
لم يجبه ألبرت، ولكن أمام إلحاحه اضطر أن يصطحبه معه إلى لندن، حتى إذا ما اقترب ألبرت من بيته اختفى الصغير قائلاً: سأعود بعد قليل يا عماه، لا تقلق.
تركه ألبرت وصعد لشقة أخيه وهو يحمل لوازم المنزل، فوجد فريد جالسًا في ركن المنزل ممسكًا بالسلاح، والدموع تغرق وجهه.
اتجه إليه ألبرت محاولاً أخذ السلاح منه، ولكن فريد لم يعطه إياه قائلاً:
- دعني، اذهب عني.
- ألبرت بحزن: لماذا يا فريد؟
- لأنك تركتني وخرجت فاستيقظت فلم أجدك، والألمان قادمون، وتركتني وحيدًا لهم.
- لن يأتوا يا فريد.
- صرخ فريد بوجهه قائلاً: وما أدراك؟
أدار ألبرت عينيه الناحية الأخرى ولم يحاول أخذ السلاح مرة أخرى، ولم يحاول حتى طمأنت ابن أخيه، بل ذهب ليعد الطعام كأن شيئًا لم يحدث، كأن السلبية أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياته.
جلس فريد وألبرت يأكلان على نفس المائدة، وفريد يرمق عمه بنظرات خائفة والسلاح ما زال في يده، وفجأة اهتز كل شيء وانقطعت الكهرباء فقد كانت طائرات الرايخ تدك مدينة لندن دكًّا، أخذ فريد الصغير يصرخ بلا توقف وهو في حضن عمه، والاثنان منزويان في ركن المنزل تحت المنضدة، وأخذ الصغير يردد: "الألمان قادمون الألمان قادمون سيقتلوننا"، وصرخت صفارات الإنذار في الشوارع وازداد القذف واشتعلت الحرائق وزاد الجنون.
كاد قلب ألبرت أن يتوقف عن الخفقان وهو يستمع لصراخ فريد: الألمان قادمون، الألمان قادمون.
أخذ ألبرت يبكي ولم يكن يفكر على الإطلاق، ثم هدأ الجو قليلاً، وسمع الاثنان صوت امرأة تصرخ في الشارع: "أتى الألمان، قتلوا زوجي، قتلوا زوجي"، وقد قُتل زوجها أثناء الغارة الجوية بسبب القذف.
هبط قلب فريد أرضًا وهو يستمع لذلك الصوت القادم من أسفل السلم فقد كان صوت قدم شخص يصعد السلم ببطء.
نظر فريد لعمه خائفًا وقال بصوت مذعور: إنهم الألمان، خذ السلاح واقتلهم، عماه خذ السلاح واقتلهم.
أخذ ألبرت يبكي، ولم يرد على الصغير.
اتسعت عينا الصغير وقال: إن لم تقتلهم سأذهب أنا لأفعل، لا أريد أن أموت.
استمر ألبرت في البكاء، فذهب الصغير وهو مذعور، وصوت الأقدام يقترب، فاتجه للباب ووقف وراءه إلى أن فتح الباب، أما ألبرت فظل يبكى وهو في مكانه إلى أن سمع صوت رصاصة قد أطلقت ثم سكون تام.
قام ألبرت وسار ببطء إلى الطرقة التي تقع في مواجهة باب المنزل فوجد فريد يقف مذعورًا ويلهث بلا توقف وقد تحجرت دموعه في مقلتيه، وهو ينظر للجثة التي أرداها وقد كانت جثة طفل في مثل عمره.
نظر ألبرت بهلع وجلس أرضًا عند وجه الجثة وقلبها، ليجد أنه الطفل "رافي" الذي جاء معه منذ ساعات قليلة من القرية، وقد جاء إلى شقة ألبرت ليحتمي بها خوفًا من القذف المستمر، ولكن رصاصة "فريد" أصابته وقتلته على الفور، أخذ ألبرت يبكي ويقول لفريد: ماذا فعلت؟ ماذا فعلت؟
قال فريد بصوت خائف متقطع: ظننته جندي ألماني، فأطلقت الرصاصة بمجرد دخوله من الباب، لقد قلتُ لك اذهب أنت ولكنك تركتني، لم أقصد أن أقتله، سيدخلونني السجن.
جلس ألبرت بجانب الجثة ما يقرب الساعة وقد توقف عن التفكير، ثم أخذ الجثة وقام ونزل إلى قبو المنزل، وأخذ يحفر وفريد يبكي بجانبه، بعد أن أتم الحفر دفن الصغير ووضع التراب عليه كأن شيئًا لم يكن، ثم طلب من فريد ألاَّ يخبر أباه وأمه بما حدث.
***
لندن – 1945 - مرت السنون، وانتهت الحرب ولم يستطع هتلر احتلال مدينة لندن طيلة هذه السنوات من الحرب، خسرت النازية وانتهى حلم الألف عام، واختفى ألبرت من كل لندن ليتناسى ما حدث.
كان يقف بمكنسته ينظف أرض القطار.
- ألبرت، ألبرت ألا تعرفني؟
نظر ألبرت لهذه السيدة التي تنادى عليه محاولاً استكشاف ملامحها
ذهب إليها وفى يده مكنسة التنظيف قائلاً:
- معذرة، ولكن من أنت سيدتي؟
- أنت لا تتذكرني ولكنى أتذكرك جيدًا، قل لي ماذا تفعل هنا؟ ألم تكن تعيش في لندن؟
- نعم سيدتي، ولكنى تركتها بعد الحرب وأعمل عامل نظافة على هذا القطار، ولكن من أنت؟
- (بابتسامة): أنا السيدة "مرفي" زوجة "بارنت" بائع الخضروات بقرية "بنشزم"، لقد كنت تأتي دائمًا لتشتري منا الخضروات، ألا تتذكر ولدي "رافي"؟
-اتسعت عينا ألبرت قائلاً: نعم، أتذكره.
-(مبتسمة): كم أفتقد هذا الصغير!
- (بحذر): ولكنى سمعتُ سيدتي أنه فُقِد.
عقدت السيدة مرفي حاجبيها قائلة:
- من قال لك هذا؟، ثم فكرت قليلاً فقالت مبتسمة: من الممكن أنك لم تتابع أخباره.
لقد انفصلتُ عن زوجي وذهبتُ لأعيش في مدينة "دينفري" في بداية الحرب إلى أن أرسل لي زوجي قائلاً إن رافي دخل مدرسة داخلية ثم سافر ليكمل تعليمه وهو الآن حبيب قلبي في أمريكا في كلية الهندسة ويراسلني كل فترة، كم افتقده! انظر إلى هذا الخطاب الذي أرسله فقد كان آخر خطاب منه الشهر السابق.
أمسك ألبرت بالخطاب وتركها فذهلت وأخذت تنادى عليه ليحضر الخطاب ولكنه لم يرد، وقد كان القطار يقف في محطة نزولها ويستعد للذهاب فاضطرت للنزول تاركة معه الخطاب مطلقة السِّباب، وهى ترى القطار يكمل سيره، فما كان منها إلا أن ذهبت في طريقها.
ألبرت الآن يجلس في مؤخرة القطار ويقرأ الخطاب الوهمي الذي يرسله الأب الحزين باسم ابنه لأمه حتى لا تموت حسرة على ضياعه، ولا أحد إلى الآن يعرف أين هو.
"أمي، كم أفتقدك! أنا الآن في الولايات المتحدة، أدرس الهندسة وأعمل في التجارة، الحال ميسور هنا، ولا أعرف إن كنت سأستطيع أن أعود قريبًا لأراكِ، ولكن طالما أني على علم أنك تقرئين رسائلي وأن هناك قلبًا يحبني كقلبك فكفى هذا."
طوى ألبرت الخطاب وعيناه مليئتان بالدموع وهو يفترش أرض القطار عند مؤخرته، وقد أخذ يضرب رأسه بالجدار نادمًا على كل شيء، نادمًا على سلبيته التي تسببت في قتل طفل، نادمًا على سلبية قد جعلته يهرب وينسى، نادمًا على خوف أصابه فهرب من كل شيء، نادمًا أنه لم يخبر الأب المكلوم بمكان ابنه إلى الآن، نادمًا على خوفه من مواجهة الحقائق، نادمًا على حياته التي أضاعها كعامل نظافة، كإنسان يرضى بأي شيء، كإنسان لا يتغير ولا يترك السلبية أبدًا، نادمًا على خفقان قلب أم لابنها وهى تظنه يمشي على الأرض بينما هو مدفون تحت ثراها.
بكى ألبرت كثيرًا، بكى بطول رحلة القطار، ولكن القطار لم يكن بين مدينتين، ولكنه كان قطار العمر.