بمثابــــة التعزيـــــــــة
إلـــى الســـيد الرئيـس : مســعود البرزانـــــــــي :
كان لابد من التأخيـر حتى يأخذ العمل صيغته النهائيـــة
ثلاث ساعات فقط تفصله عن رحاب الجنة وعليه أن يتهيأ جيدا لمرحلة العمر الانتقالية الكبرى هذه , الناس يمضون ثمانين سنة متواصلة من العبادة حتى يقوا أنفسهم سعير النار ويُدخلهم الله جناته الرحيبة التي تجري من تحتها الأنهار والتي فيها مالاعين رأت ولاأذن سمعت ولاخطر على قلب بشر , وهو ستأتي عليه لحظات , فقط لحظات ستكون خيرا له من الدنيا وما فيها , وخيرا مما أشرقتْ عليه الشمس . إنها لحظات كبرى من الجهاد الذي يحقق لصاحبه الشهادة , ومَنْ هو ليصبح شهيدا لولا أن أنعم الله عليه بهذه النعمة وأرشده إلى الفقيه ليبين له نهج الجهاد في سبيل الله .
لكنه لقاء ذلك عانى كثيرا ولقي الأهوال كثيرا كانت في بعض مراحل ذروتها أصعب عليه من أهوال قبور أهل الكفر والزندقة , أجل لقد كانت أشد .
تسعون يوما أمضاها في تلك الجبال البعيدة تلقّى فيها أقسى ألوان التدريب , ثم اتجه إلى البقاع الأخرى التي كان يشاهدها في الأشرطة التي كانت تصله ليقضي في قر الشتاء مائة يوم بين الثلج .
قالوا له : حتى يتخلص جسدك الفاني من راحة الدنيا ويتدرب على مشاق سبيل الآخرة . بعدها جاب بلادا لم يكن يعلم لغات أهلها , أقام في فنادق كبرى وصغرى , أقام في مغارات وكهوف وخيم وغابات وعند منعرجات أنهار : حتى يقسى قلبك على الدنيا ويلين للآخرة . الآن جاءت اللحظات الحاسمة التي تهيأتَ لها نفسيا وجسديا وروحيا , غدوتَ على أتم الاستعداد للدخول في محرابها . قال لك الفقيه الزعيم وهويودعك الوداع الأخير في الدنيا على أمل لقاء قريب بك في الدار الآخرة : قم الليل كله شكرا لربك لأن القرعة المباركة وقعت عليك , وكان يمكن أن تقع على أحد الأخوة غيرك , وعندها كان بمقدورك انتظار الفرصة الذهبية مرة أخرى التي قد تأتي أو لاتأتي في العمر .
إنها فرصة العمر الذهبية الثمينة التي أصابتك في هذه الليلة المباركة . ثم تلوت وصيتك التي صورها الأخوة على شريط , أوصيتهم ألا ينظر أحد إلى عورتك إذا كان بالإمكان غسل جسدك . عدت إلى مسكنك وأنت تعمل بما أمرك به الفقيه شخصيا عندما بركت بين يديه المباركتين لأول مرة في عمرك , وهو الحلم الذي لبث يراودك إلى أن تحقق . أجل هاهي كل الأمنيات تتحقق برحمة الله .كان عليك أن تعود إلى تلك الأراضي التي تركتها مرة أخرى لتحظى برؤية فقيهك وزعيمك وشيخك ومعملك في غربته وليقدم لك وصيته ويبارك لك عملك الجهادي الذي سوف تفوز به بنعيم الجنة وتترك ريحا طيبة في الدنيا .
سبعة أيام أمضيتها في انتظار يوم اللقاء العظيم وفي الليلة الأخيرة بعد صلاة العشاء اجتمع الأخوة على أضواء الفوانيس و جهزوا كل شيء لحفلة عشاء الوداع , كان كل شيء مرتبا له وفق نظام بالغ الدقة , أدخلوا لحم عجل كامل مع رأسه على ثرود وخبز صاج ساخن , كان أطيب وألذ عشاء تناولته في حياتك وأنت يُحتفى بك وسط أخوتك في الجهاد , وكأن النعمة تنزل عليكم على أجنحة الملائكة من السماء وأنتم في وداعكم المبارك في هذه البلاد الغريبة عليكم , في الصباح تناولتم قشدة الجاموس مع العسل وبيض البط المقلي بالسمن والجوز مع خبز التنور الساخن , وفي الظهيرة تناولتم لحم ديك الحبش على البرغل وتناولتم حلويات اليرموك . أجل كأنكم مابرحتم دياركم .
كل أخ في الله قدم من بلد من بلاد الله الواسعة ومن لغة من لغاته الرحيبة تجمعكم كلمة الجهاد في سبيل الله .
بعد تناول العشاء دخل فتيان كملائكة صغار تنمو خيوط لحاهم للتو , نورهم في وجوههم , يرتدون جلابيب ناصعة البياض وعلى رؤوسهم قبعات صغيرة كقطع من ثلج , يحملون بأكفهم مسابح ذات خرزات كأنها اللؤلؤ ودفوفا مزينة بالفضة ليبدأ فصل المديح والثناء . أصوات رقراقة رخيمة تصدح من حناجرهم أرق وأعذب من رقرقة ماء الفرات عندما تداعبه نسمات الربيع :
لولا الإله وعبـدُه ولَّيتم حين استخف الرعب كل جبان
بِالجِزع يَوم حَبا لنا أقرانُنا وســوابح يكـبُـون للأذقــان
مـن بين ساع ثوبه في كفه ومقــــطَّـرة بســنابـك وَ لـَـبان
واللـه أكرمنا وأظهر ديننــا وأعــزنا بعــبــادة الــرحمـــــن
واللـه أهلكهم وفرَّ ق جمعهم وأذلهـــم بــعبــادة الشـــــيطان
ويجيء بشاي الحجاز الأحمر الذي لم تكتشف مذاقه الطيب إلا هناك , ثم بزر أفغانستان المنتفخ بلبه , ويجيء من بعد ذلك بالمن والسلوى , ثم بالفستق العجمي المحمّص , وجوز الهند , والفتيان يأتون بالأشعار والمدائح والأناشيد التي ترفع من معنويات الجهاد تارة فيكون الصلاة والسلام على النبي , وتارة تثني على الزعيم الذي أحيا الله على يديه الجهاد في زمانكم وقد كان يحتضر في نفوسكم , فتزدادون ولاءً له وتسألون الله أن يطيل عمره وألا يصيبه مكروه , لأن النور الذي بعثه فيكم سوف ينوس وينطفئ لولاه , وستغدون في العراء كالغنم المَطيرة في رعد الليلة الشَّا تية , سيرتدّ الناس , وينجم النفاق , وتعظم به مصيبة المسلمين .
يزداد الأخوة أناشيدا واحتفالا وابتهاجا وهم يودعونك الوداع الأخير ويقولون : يالك من أخ محظوظ , ستسبقنا إلى جنان الخلد , بلّغ سلامنا واشتياقنا للأخوة هناك واحدا واحدا , واخبرهم بأننا باقون على العهد الذي عهدناه معا في الدنيا .. أنتم السابقون وإنا إنشاء الله بكم للاحقون .
بلغنا السماء بمجدنا وسنائنا وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا
مع أنفاس الشفق الأولى خرج الجميع من المسكن المحصن , وبلغك شيخك وإمامك وحجتك وفقيهك بثوبه الذي بلون النارنج وسيفه الفضي , ولج عليك بهيئة ملاك تفوح منه رائحة الجهاد ولاتدري لماذا انتابك إحساس بأنه قطع مسافة طويلة على خيله في طرقات وعرة .
نظرت في عينيه نظرة مستغرقة أدركت حينها بأن هذا الذي تقف في حضرته إنما هو رجل آخرة أكثر منه رجل دنيا . كنت تعيش حياتك كورقة خريف ساقطة فرفعك هذا الرجل وبث فيك حياة الجهاد وجعل لحياتك قيمة ومعنى . إنك مدين له بشمسه التي أشرقت على ظلمتك , بمطره الذي هطل على تصحر روحك . وعندئذ لم تملك نفسك وأنت تبكي بين يديه وتقول : أي محظوظ أنا ياسيدي حتى تمنحني وقتك الثمين فأكون بين يديك ووجهك ونورك , يحظى سمعي بنبرات صوتك , تحظى عيناي برؤيا هيئتك , آه ياسيدي لوتعلم كم أحبك في الله , وكم أشرقت نفسي على ظلمائها برؤياك .
كنت تحدثه ودموع الجهاد تنهمر من مقلتيك برقة وعذوبة وهي تنظف نفسك من كل آثام الدنيا , كل دمعة كانت تقتلع كربا من نفسك , أجل لظتذاك علمت بأنها كانت دموع غسل الآثام التي لايحظى بها المرء المحظوظ غير مرة واحدة في العمر .
كل شيء فيك كان في حالة خشوع وأنت في حضرته تحادثه ويحادثك وجها لوجه , وعينا لعين , وسمعا لسمع , وحواسا لحواس . كانت دقائق سريعة بركت فيها بين يدَي الفقيه المباركتين الذي بدا لك كملاك وتوارى أيضا في غمضة عين كملاك بعد سبع دقائق معدودة تاركا في نفسك أثره البالغ وفي سمعك كلامه الذي لن تنساه ماحييت :
الأيام الثلاثة التي تسبق جهادك لاتأكل لحما , يستحسن أن تأكل ثلاث ثمرات فقط في اليوم , وإن كان لابد يمكن أن تزيد شيئا من الهندباء , تكون صائما الأيام الثلاثة الأخيرة , تقيم لياليها وتختم فيها القرآن يستحسن أن يكون قرآنا خالصا دون تفسير , ولاتنظر خارج مسكنك طرفة عين , لاتستقبل أحدا , لاتحادث زوجك أوولدك في الهاتف , لاتودعهم , لاشيء من أمور الدنيا يشغلك غمضة عين عن الآخرة التي أنت ذاهب إليها ، في اليوم الأخير تغتسل جيدا . .
كانت الوصايا تنهال على سمعك كالوحي :
تمضي في الحمام ثلاث ساعات متواصلة وأنت تغتسل وتتنظف من آثار قذارات الدنيا . تخرج من بيتك قبل ساعة من الموعد , تشرب من ماء زمزم حتى ترتوي , ترتدي جلبابا أبيضا يُلبس أول مرة , تشد خصرك بحزام , وتنتعل خفا , تحمل قرآنك في جيبك الذي على صدرك جهة القلب , تتعطر بعلبة العطر التي تُفتح أول مرة ولاتُبقي فيها شيئا , ولاتنس أن تغسل سيارتك بيدك وتضع في مسجلها سورة / التوبة / وأنت متجه نحو الهدف . . وإياك أن تُعلم أحدا بتفاصيل الهدف لأن كل شيء سوف يُفسد عليك عندما تتسرب كلمة إلى سمع غيرك وعندها حتى لو نجحت في هدفك وأبليت به بلاء حسنا فسوف تموت كما يموت كلب , لأنك عندذاك ستكون قد ابتغيت الدنيا ولم تبتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة . ثم مال بفمه المبارك وطبع قبلة على جبهتك وهو يختتم حديثه إليك : لقد ربيتك للجهاد , إنني أرى علامات الجهاد في محياك ياولدي , كثيرون يعيشون الدنيا الفانية ويُفنون فيها , لكن أمثالك من رجال الله وسيوف الإسلام المسلولة لاعلاقة لهم بالدنيا ويتخذونها وسيلة ليلقوا وجه ربهم في آخرة عزيزة كريمة . ليبنوا ما شاءوا قصورا فانية في جحيم الدنيا , لكن أمثالك تبني لهم الملائكة قصورا خالدة لاتتزحزح أركانها في رياحين الجنة .
بارك الله بك وبجهادك وإنا إنشاء الله بكم في الجنة لملتقون .الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لايمسنا فيها نصب ولايمسنا فيها لغوب .
كانت هذه هي عبارته الأخيرة ليتوارى في رفة جفن ويحل معاونه حاملا هدية الزعيم إليك ويأذن لك بالعودة إلى مسكنك في حذر تام .
كانت الحقيبة محمّلة بكل ما أراده الفقيه الزعيم منك :
تسع حبات تمر مغلّفة جيدا , زجاجة مغلقة من ماء زمزم , علبة عطر بلون الأرجوان , قالب صابون , حجر أسود لتنظيف الجسد بدل الليف - وأنت على علم سابق أن الفقيه يستخدم في حمّامه الحجر بدل الليف - منشفتان واحدة للحمام والأخرى للوجه , جلباب أبيض , خف فضي , حزام من جلد النمر , شريط مسجل عليه سورة / التوبة / , نسختان من القرآن , واحدة بحجم الكف , والأخرى كبيرة . الوقت يمضي وأنت مستغرق في تفاصيل ذاك اللقاء , وهاهي ساعة واحدة بقيت على اللحظة الكبرى .. أجل ساعة واحدة . الأخوة أخذوا سيارتك التي غسلتها بيديك وأعادوها مجهزة لتنفيذ المهمة . من يعلم قد تقفز هي أيضا معك إلى الجنة بعد ساعة لأنها وسيلة الجهاد . من يعلم , لربما لن تتمكن الدخول إلى المبنى لتظفر بالنعيم وحدك دون السيارة , قد يقع طارئ يمنعك الدخول , أو يمنعك مجرد الخروج من السيارة ، وعندها ستؤدي هي المهمة .
تقدم إليه ولداه , قذفا نفسيهما في حضنه وكأنه كان غائبا منذ دهــر . نظرتْ إليه زوجته نظرة فائضة بالدمــع والكلام الراعش يرجف في فيها : هل حان الوقــــــت .
أخفض رأسـه علامة بالإيجاب وخطا نحو الباب الخارجــــي .
أما نسـيت شـيئا ؟
لحقته نبرات زوجته الراجفة .. وقف هنيهة يتذكر .. : لا لاشيء موعد وداع هذه الدنيا الفانية اقترب .
تودعك بالدموع وأنت تقول لها بأنك ذاهب إلى الجنة شهيدا , وأنك ما أن تحل فيها حتى يكون لك / بإذن الله / أن تشفع لأربعين إنسان ممن تحب وتُدخلهم الجنة حتى لوكانوا في الدرك الأسفل من النار . وتتوسل إليك أن تأخذها و الطفلين معك لتحلّوا جميعا وفي لحظة واحدة , تقول لعلك تنساها وأنت في الجنة .
ولكنك تعاهدها أن تكون هي أول من تشفع لها عند ربك , فتطمئن .
يحاول أن ينسى كل شيء في الدنيا كما أوصاه الزعيم , إنه ذاهب لتنفيذ مهمة ولاصوت يعلو على صوتها . كل شيء غدا في مكانه حتى الجهاز الذي سوف يستخدمه في حال تعسر الاصطدام بجسم صلب . استرد شجاعته وهو يتذكر قول أحد أخوته في حفل العشاء الأخير : / تتكئ على مفرش من السندس , وتأمر الحور العين أن يحملن ذلك المفرش فيضعنه على سرير من سرر أهل الجنة , وإنما هو زبرجد أو عسجد , فَـيُكوِّنُ الباري فيه حـَلـَـقاً من الذهب تُطيف به من كل الأشراء حتى تأخذ كل واحد من الغلمان وكل واحدة من الجواري المشبَّه بالجُمان , واحدة من تلك الحـَلـَق ِ , فتُحمل على تلك الحال إلى محلك بدار الخلود , فكلما تمر بشجرة نضختك أغصانها بماء الورد قد خُلط بماء الكافور , وبمسكٍ ماجني من دماء الفور , وتناديك الثمرات من كل أوبٍ وأنت مستلقٍ على الظهر /.
لم يدر بنفسه إلا في الخارج . صوّب نظرة إلى السيارة الواقفة بمحاذاة الرصيف , والتفت ليلقي النظر إلى شكل البيت الخارجي الذي أمضى فيه أسبوعا ثم مد يده فاتحا الباب , جلس خلف المقود , أدار شريط المسجل ليترامى في سكون السيارة صوت مقرئ بسورة التوبة . ولايدري لماذا خطر له في لحظة أنه الوحيد في هذه البلاد الرحيبة التي يستمع فيها القرآن في سيارته , ولذلك أحس بشيء من العزلة , وأنه حالة غريبة في هذا المجتمع . صوّب نظرة إلى ساعة السيارة , نصف ساعة .. فقط نصف ساعة لبثت على الوقت المحدد , والأخوة لابد أنهم قد جهزوا أنفسهم الآن من أسطحة مجاورة لأخذ صور .
كل شيء يمضي بأمان وعندما يطرأ طارئ سوف يأتيك صوت من الخليوي أن / أطفئ التوبة الآن / ستتوقف وتترك السيارة في أرضها أينما كنت وتتوارى في رفة جفن إلى أن يأتيك توجيه جديد . امتدت أنامله بشجاعة إلى المفتاح وأداره لتصدر السيارة صوتا . تذكر وصية معاون الفقيه : إذا وقع في قلبك وجل وأنت في الطريق أو زاغك نزغ من الشيطان فاعلم بأنه يريد أن يكون حائلا بينك وبين الجنة , اقرأ المعوذتين سبع مرات , ثم اقرأ الآيات الثلاث من أواخر البقرة , وتوقف قليلا , قل : سبحان الله وبحمده مائة مرة , ثم قل : لاإله إلا الله وحده لاشريك له , له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة أخرى . وانطلق بشجاعة المؤمن الجسور لايهاب شيئا في سبيل الله الواحد الأحد .
يمم وجه السيارة شطر الهدف الذي يعرفه جيدا وعاينه ثلاث مرات والأخوة على تواصل ساخن معه ومع الهدف . مضت السيارة .. نظر نظرة أخرى إلى مؤشر ساعة اللوحة , ثلث ساعة بقيت , فقط ثلث ساعة , والمسا فة المتبقية نحو خمسة كيلو مترات : عليك أن تصل في الوقت المحدد بالثانية لأن كل شيء يجري وفق هذه الثانية , وإن دنوت قبل الثانية تمهّل قليلا إلى أن تحل ، ولاتنس ذكر الله .