عاد إبراهيم الفقي إلى المنزل آخر النهار وقد هده التعب , أي منزل ؟! غرفة وحيدة تطل على فناء خال إلا من طرمبة مياه زعراء الذيل , فقد كسر الأولاد يدها من زمن , فبقيت على حالها , فسموها " الزعراء" وشجرة توت لا تثمر , ألقى نظرة على الغرفة فلم يلق سوى الصمت , أدرك أن الأولاد ذهبوا إلى أمهم "عسرانة" في دار أبيها ـ رحمة الله عليه ـ وكان قد حذرهم في الصباح من الذهاب إليها , فلابد له من أن يذلها بالأولاد , فتحرم من رؤيتهم , ومع ذلك شعر في أعماق ذاته بالراحة لعصيانهم أمره , ماذا يقدم لهم لو طلبوا طعاما أو شرابا , ها هو يعود كما خرج , ألقى بالفأس والمقطف إلى الأرض واتجه إلى "مشنة" الخبز , فعثر بالكاد على لقيمات صغيرة مقددة تفوح منها رائحة عفن , أخذها في كفيه الكبيرين وغسلها بالماء فلانت قليلا وصارت مقبولة , أخذ يأكل وهو يردد بينه وبين نفسه دون صوت وكأنه يخشى أن يسمعه أحد : " كده يا عسرانة تهون عليك العشرة " لم تكن المرة الأولى التي تغيب فيها عسرانة عن المنزل غاضبة إلى بيت أبيها , يوم والثاني وترجع وكأن شيئا لم يكن لكن الغيبة طالت هذه المرة يا عسرانة . لم يتحمل إبراهيم الجلوس وحده في المنزل , وكان الليل قد دخل , وليل القرية ثقيل مثل الهم يكاد يكتم الأنفاس , صفق الباب خلفه وخرج , مر بدكان الحاج صالح اخذ منه سيجارتين , لا تنظر لي هكذا يا حاج صالح أعرف أن الحساب ثقل , أشعل واحدة واحتفظ بالثانية لوقت آخر , كان بعض الرجال قد عادوا من صلاة المغرب فجلس بينهم على المصطبة وهو ينفث دخان سيجارته في عنف وضيق معا , لم يلق السلام , وربما ألقاه ولكنه لم يسمع ردا ولا يعنيه أن يسمع , إنه يفكر في عسرانة "جمل إبراهيم الفقي" كما يقول أهل القرية , أرسل لها أكثر من رسالة وأكثر من شخص من أهل الخير , ولكن كل هذا دون جدوى , تقول أنها لم تعد تطيق العيشة , له أكثر من شهر لا يعمل وهي والأولاد لا يجدون ما يأكلونه , وما ذنبي يا عسرانة إذا كانت هذه الأيام أيام سوداء لا زرع ولا قلع , بكرة تفرج يا بنت الناس , لكن عندها حق , انتبه الحاج السعدني الذي كان ربما يراقب إبراهيم إلى صوته , وقال :
ـ من هذه التي عندها حق يا إبراهيم . . عسرانة ؟
نظر إبراهيم إلى الحاج وعيناه تكادان تشرقان بالدمع و فأشفق عليه الرجل , وقال :
ـ لا تحمل هما يا إبراهيم , سأذهب الليلة مع الحاج صالح إلى عسرانة ونردها إليك . . عليك كل ما عليك ألا تنطق بكلمة واحدة .
ابتسم إبراهيم في حياد , فهو لم يعد يحتمل فراق عسرانة ولكنه في الوقت نفسه يائس من عودتها , هز رأسه في استسلام وهو يقول بصوت مخنوق :
ـ البركة فيكم .. اعفني .. لن آتي معكما
أطرق الحاج السعدني , ثم قال وكأنه استراح لقرار إبراهيم :
ـ أفضل
غادر إبراهيم المكان مبكرا عائدا إلى المنزل , كان يدرك أن عسرانة عنيدة وراكبة رأسها , وأنها لن تأتي مع الحاج السعدني أو غيره , لقد أرسل لها من هم أعظم من الحاج السعدني والحاج صالح , تصر أمها العجوز على الطلاق ز رفضت عسرانة الكثير من شباب القرية الذين تقدموا إليها , وعندما تقدم إبراهيم الفقي الأجير الذي لا يملك سهما واحدا من الأرض قبلته , عجب الناس , ولكنهم في النهاية رضوا وقالوا كل فولة ولها كيال , ليس لعسرانة " الجمل" غير هذا الفحل , قالت لأمها : وحيد يا أمه , لا أب ولا أم , وأذعنت العجوز لرغبتها , وكان عرسا لم تشهد له القرية مثيلا , دفع إبراهيم الباب بقدمه ورمى بجسده على الفراش , ولم يصح إلا على أشعة الشمس الحارقة تلسع عينيه فتحها بصعوبة وقام , اغتسل وصلى الصبح قضاء , ثم خرج من البيت بلا هدف , رفضت عسرانة أن تعود مع الرجلين كما توقع،كله من العجوز الشمطاء ، أين ذهب كلامها أنت زوج ابنتي وأخوها ، ليس لنا فى البلد غيرك ، لو تموت هذه العجوز ؟ لم يكن إبراهيم شريرا ، إنه لا يفكر إلا فى عودة عسرانة ، فجأة وجد نفسه وجها لوجه أمام عسرانة ،يفصل بينهما طست غسيل ، كانت جالسة فجلس أمامها،ثم قال :
- صباح الخير ياعسرانة
فلم ترد ،رمت بنظرها بعيدا
-كده ياعسرانة ..تهون عليك العشرة
فلم ترد أيضا ،ورمت بنظرها بعيدا ولكن بين آن وآخر كانت تنظر إلى شئ محدد لم ينتبه إليه إبراهيم عندما جلس ، الذي كان يرتدى جلبابه الوحيد دون أن يدرى أن أعضاءه الداخلية نهبا مشاعا لنظر عسرانة الحاد المراوغ ، فأخذ يردد من جديد :
- كده يا عسرانة ..تهون عليك العشرة
شردت عسرانة هذه المرة ، ثم كادت تفلت منها ضحكة ، ولكنها ابتسمت فى حياء وهى تقول لإبراهيم الذي فوجئ:
-خذ الأولاد واسبقني على الدار يا أبراهيم ، أخلص الغسيل وآتى وراءكم
ثم بعد تردد ، وكأنها تصحح خطأ :
-ولا أقول لك ..دع الأولاد يلعبون
وفى الطريق إلى المنزل كان إبراهيم يسير فى الأمام وخافه بدت عسرانة كحيوان شارد ، ولكنه بالتأكيد ليس الجمل ، وعندما وصلا دكان الحاج صالح رفع إبراهيم صوته بالسلام ،فكادت عسرانة تتعسر به ، أما الحاج صالح فقد ضرب كفا بكف ونسى أن يرد السلام
كاتب مصري
ليسانس آداب – قسم اللغة العربية- كلية الآداب /جامعة الزقازيق/مايو 1985م. ماجستير في الآداب كلية الآداب - لغة عربية - /جامعة الزقازيق/مايو 1991م. دكتوراه في الآداب – تخصص الأدب الحديث - كلية الآداب / جامعة المنصورة 2001م. له مجموعة من المؤلفات الأدبية والأكاديمية منها: لن أقلع عن هذه العادة (مجموعة قصصية)، شعراء حول الرسول صلى الله عليه وسلم (دراسة أدبية)، الفن القصصي عند فاروق خورشيد.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية