ويجمعنا الصَّيف في ذات الباحة، يلمُّ شتات غربتنا تحت ظلال دالية العِنب في بيت جَدِّي الحبيب، فنحثُّ الخطى لحظةَ أن تطأ أقدامنا عتبته، متسابقين أيُّنا سيصلُ أوَّلا ليَحْظى بقرب الجَدِّ والجَدَّة، كما كنا نفعل ذلك ونحن صغار..
وكَمْ، وكَمْ تَدافَعنا ساعةَ يمدُّ جَدِّي يديه بالعَطايا: حلوى، مُكسَّرات، وفاكهة مُجفَّفة!
صور شتى تَتَداعى قبالتي وأنا أنظر إلى أطفالنا كيف يمرحون كما كنا نمرح، ويتعاركون كما كنا نتعارك!
عراك لا يترك نُـدبًا، ولا يقسِّي قلبًا، وتجافينا من بعده لا يدوم طويلا، وأغرب ما فيه أنَّه كان يزيدنا تواصلاً!
فما أن يغضب الصَّديق من صديقه، ويولِّي وَجْهَهُ مُدبرًا حتى يُدرك أنه لا يستطيع أن يلعب بمَرح وحدَه، وإذا عاندَ واستكبرَ فلن يجدَ مَن يشاركه خططه بالإعداد والتَّنفيذ، فيكون قد حكم على نفسه بوحدةٍ بَغيضةٍ لا يَقوى عليها قلبه الغَضّ، فيعود محمَّلا بجميلِ صَفحٍ ليجد صديقه قد سارع هو الآخر حامِلا اعتذاره الودود وطاقة حبٍّ!
وحدها "مها" ـ ابنة عمي ـ مَن كانت تقدر على مرِّ الخصام لأيام وأيام، وكم كانت تتسبَّب في عقاب الأولاد من ذويهم دون ذنب اقترفوه، سوى أنهم لا يحبُّون اختيارها ضمن فريقهم بسبب دَلالها ـ كما كانوا يُبرِّرون!
ويوم كبرتُ قليلا كان بيت جدي ملاذًا آمنًا، آوي إليه ساعة تنهشني القَسوة مِن أقرب الناس إليّ، ويغلبني الحزن لضعف قدرتي على مواجهته، فأرتمي في حضن جدَّتي ألتمسُ دفأً، حنانًا، وشيئًا مِن أمان يُعينني على مواصلة المَسير!
- "أنسام"، هل أنت معنا؟
صوت ابنة عمي " مها" ينبِّهني من شرودي، فأجيبها بابتسامة: نعم، ما زلتُ هنا!
- بعد غد سيُفتتح معرض العُطـور، هل ترغبين في الذهاب معنا؟
هَمَمْتُ بالإجابة لكن صوت جَلَبة الأطفال أخمدَ صوتي، وصوت بُكاء "بدر" أفزع أمه "مها" فقامت مهرولة نحو مصدر الصوت لترى ماذا حدث!
تبعتُها قلقة، سائلة الله اللُّطف!
...
- لماذا؟!
- لم يكن قصدي.
- لماذا؟!
- لم يكن قصدي.
كنت كلما رأيتهما على هذا الحال ملأني الغَـيْظ، وتداعَتْ صُـوَر طفولتي الرماديَّـة قبالة ناظريّ!
كم كان يوجعني السُّـؤال، ولا أجرؤ على الـتَّفوه به: لماذا أمي بكلِّ هذه القسوة؟!
وكم كنت أشعر بالغصَّـة عندما تطلب منا مدرسة الـلُّغة العربيَّة كتابة موضوع إنشاء عن قلبِ الأمِّ الشَّـفيف، وعاطفتها الجيَّاشَة، وحنانها الـمُغدِق!
لم أكن حينها أعرف كيف أواري.. كيف أكذب!
فكنتُ أسطِّر الكلمات بيَدٍ مُرتجِفَةٍ فتصل مُفكَّـكةً بلا مَعنى!
ما زالَتْ "مها" تصرخ في وجه طفلتها ذات الأعوام الخمس، مُطالبة إياها بالاعتراف، ونبرة صوتها الحادَّة تَسْـتَـفِزُّ شَـتَّى مشاعر العَداء المكبوتة بين أضلعي!
عداء لقسوة، لأنانية، للؤم طبعٍ، لضيق أفق، لعدم فَهم، لتضييع أمانة..
عداء لأمٍّ ـ لكلِّ أمٍّ ـ لا تدرك من مَعاني الأمومَة، ولا تعرف من أبجدياتها سِوى أن تقوم على ترتيب مَظهر أطفالها بصورة فائقة الاهتمام، لتتباهى بهم أمام الآخرين، لاسيما أمام زوجات إخوانها، وقريناتها من الأقارب والصَّديقات!
حاولتُ مَسك زمام نفسي، والسَّيطرة على موجةِ الغضب الهادِر التي هاجَتْ في صدري، فرحتُ أذكِّر نفسي بوصيَّـة رسولنا الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي الدَّرداء: "لا تغضبْ ولك الجنَّـة.. لا تغضبْ ولك الجنَّـة.. لا تغضبْ ولك الجنَّـة!"*
اقتربتُ منهما أكثر، وسألتُ بهدوء مُصطنع: ما الأمر؟
- أوقعت أخيها ولا تريد أن تعترف لِمَ فعلت ذلك، ولم يَعُدْ لسانها يحسن الـنُّطقَ إلا بعبارة "لم يكن قصدي"!
- فأجبتها بِتَهَكُّمٍ لا يخلو من حَنق: طفلة في الخامسة مِن عُمرها تلعب مع أخيها الذي يصغرها بسنة ونصف، تُرى أي سبب خَبيث يدفعها إلى أن توقع أخيها؟! هل هي محاولة اغتيال ليخلُ لها وجه أبيها وأمّها فتستأثر بالدلال وحدها؟ أم رغبة في أن تَـتَـسَـبَّـبَ له بعاهة مُستديمة فلا يتمكن بعد اليوم بالعبث في ألعابها!
ازدادَتْ غضبًا على غضب، فأمسكتْ بكفِّ ابنتها، ودفعتها بقـوَّة لتمشي أمامها، ثم رَمَقَتْني بنظرة يَقْدَحُ منها الشَّـرر قائلة: احتفظي بفلسفتك لنفسك، فلست بحاجة إليها.. ثمَّ أعْرَضتْ ونَأتْ!
فأطلقتُ كلماتي ـ كرَصاص أُحْكِمَ تسديده ـ علَّها تخترق جُدُر الكِبر والقَسوة والأنانيَّة فتُضَعْضِعُها: عندما تصبحُ في مثل سنّك سيصبحُ لديها ألفُ سببٍ خَفـيٍّ!
ــــــــــ
* "لا تغضب، و لك الجنة"
الراوي: أبو الدرداء - المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 7374
خلاصة حكم المحدث: صحيح