جلس الطفل إخناتون عند قدمي أبيه الملك أمنحتب الثالث الجالس علي عرشه بقصر الحُكم في طيبة .. إنه عهد الامبراطورية المصرية في عز مجدها وقمة نضوجها وعنفوان سطوتها واتساع رقعتها، من نهر الفرات شرقاً حتي أجزاء من شرق ليبيا غرباً، ومن قبرص شمالاً حتي الشلال الخامس جنوباً بالسودان، وذلك قبل الميلاد بأربعة عشر قرناً كاملاً .. كانت هيئة أمنحتب الثالث تُـظهر كونه ملكاً مهيباً ذا شأن عظيم .. جسد ممتلئ وبطن بارز وعنق غليظ، حيث حياة الرفاهية والبذخ في أقصي حدودها .. رُصت أمامه علي طاولة منبسطة شتي أنواع الفاكهة تفوح بأزكى الروائح وتشع ألواناً تُطعم العيون قبل الأفواه .. علي رأسه تاج ذهبي منمق يتدلى منه رأس حية ملكية زادت من رهبة هيئته وجبروت حضرته .. تُجاور طاولة الفاكهة واحدة أخري أصغر منها مستقر عليها الصولجان والمذبة رمزا الحكم وشعارا شطري مصر القبلي والبحري .. يرتدي الملك ملابس كتانية فاخرة بالغة النعومة .. له ملامح وسيمة رصينة أبرز ما فيها أنفه المنحوت وعينيه اللوزيتين .. تنتشر الأساور الذهبية المرصعة بشتي الأحجار الكريمة أعلي عضديه ومعصميه وكاحليه .. بالإضافة لصندل مجدول من لفائف ذهبية مستقر في قدميه المكتنزتين .. القصر كله كان يتلألأ من الداخل بنور أصفر تحت تأثير المشاعل المنتشرة في أرجائه، وبدا لو ان كل ما فيه قد نُحت وطلي من الذهب الخالص .. أما اخناتون فكان رشيق الجسد حليق الرأس تماماً مكحل العينين، لا يتخطى عمره الثمانية أعوام .. بسيط في ملبسه المكون من إزار كتاني يغطي نصفه السفلي وصندل خفيف .. كان الطفل وقتها لا يسمي إخناتون، بل كان بنفس اسم أبيه .. أمنحتب .. الأمير أمنحتب الرابع .. وكان هو ولي العهد، وبكر أبناء أبيه .. كانت قاعة العرش خاوية إلا من الملك وابنه .. حيث أخلاها أمنحتب الثالث ليقضي بعض الوقت مع ابنه المدلل.

أمسك إخناتون بقدم أبيه في لطف وسأله باهتمام وهو يحدق فيه لأعلي :

- أبي .. هل أنت حقا .. إله ؟!

بهت الملك للحظات وهو ينظر لوجه ابنه، وقد اعتلت قسماته بعض الغضب، غير انه تبدّل بسرعة وابتسم لصغيره بهدوء ثم قال له:

- نعم يا بني .. فالكل يعلم هذا .

واصل الابن التحديق في ملامح أبيه وأكمل استفهاماته قائلا :

- ولكننا يا أبي بشر .. ألسنا بشرا ؟!

أمسك أمنحتب الثالث يد ابنه في رفق وجذبها ناحيته، فقام إخناتون من مجلسه ووقف بجانب أبيه .. عندها استوت قامة الطفل وأصبح رأسه في مستوي رأس أبيه فصارت النظرات مباشرة .. كانت ملامح اخناتون تحمل الكثير من القلق وعدم الفهم الممزوجان ببراءة خالصة، فقال له الملك بصوت هادئ :

- الرعية هم البشر يا ولدي .. فنحن نتحكم بهم .. إنهم جزء من أملاكنا .. أما نحن فمن نسل الآلهة .. يجب أن تعي ذلك جيداَ يا أمنحتب .. فأنت الملك والمالك من بعدي .

تردد اخناتون قليلا وقال بخفوت وهو يلامس شفته السفلي بسبابته اليمني متوتراً :

- ولماذا لا تكون أنت يا أبي ملكا طوال الوقت ؟! .. إني أخاف ممن يجلسون معك من الكبار، ولا أريد أن أكون معهم .

ضحك الملك وربت علي كتف ابنه وهو يقول :

- سيأتي يوم يجب أن أذهب فيه للعالم الآخر .. وسيذهب من يجلسون معي أيضا .. إنه الموت يا أمنحتب .

ظهر بعض الذعر علي وجه اخناتون وهو يقول ببراءة :

- البشر يموتون .. فكيف تموت إذن يا أبي وأنت من الآلهة ؟!

- لقد مات أوزوريس وهو كبير الآلهة .

- كيف يموت الإله ؟! .. ما الفارق إذن بينه وبين البشر ؟!

عـلـَت الجدية وجه الملك وهو يقول لابنه :

- أمنحتب .. يجب أن تفرق بين موت الإله وموت البشر .. موت الإله إنتقال من مكان إلي مكان، كما ننتقل بين حجرات هذا القصر .. أما موت البشر فمحاكمة فحساب فجنة أو هلاك .. نحن الآلهة لا نحاسـَـبْ .. بل ونلتحق بأوزوريس في فردوسه الأخضر، أو نطوف مع رع في سمائه الزرقاء .

- وإذا رفضت أن أطوف مع رع، أو أذهب مع أوزوريس، فمن الذي يجـبرني علي شيء لا أريده ؟! .. أريد أن ألعب مع أصدقائي فقط .

- الحياة مع رع أو أوزوريس وبقية الآلهة حياة خالدة إلي الأبـد، حياة بها كـل مـا تتمناه ويخطر ببالك .

- وأصدقائي ؟!

- لن تحصد من صداقاتك يا امنحتب سوي الحقد والكراهية عندما تكبر .

- وهل الحياة مع الآلهة ممتع كأصدقائي ؟

- الآلهة متعددة لا أول لها ولا آخر .. ويمكنك التحدث مع أي منهم، فلا تنس أنك منهم .. والآلهة لن تري منهم إلا الوفاء ولن تشعر معهم إلا بالمتعة والراحة .

- لماذا لا نكتفي بأوزوريس أو رع أو بك يا أبي ؟! .. لماذا كل هذه الآلهة ؟!

- لكل واحد من الآلهة وظيفة .. ويجب أن تتعلم أنك مثلهم .. وأنك من نسل الآلهة .

- ولكني يا أبي لم أخـْـلـِـقْ أحداً لأكون إلهاً .. فالإله كما سمعت هو الذي يخـْـلـِـقْ .. أنا أشعر بأني مثل البشر يا أبي .. بنفس شكلهم .. ولا أعلم ما هو شكل الآلهة !

- شكل الآلهة مثلنا تماما .. فنحن هم، وهم نحن، ولا تفكر في مثل هـذه الأمور .. فأنـت مازلت صغيراً .

- وهل إذا كبرت يا أبي سأفهم ؟!

- بالتأكيد يا صغيري .

- وعندها سيكرهـني أصدقائي ؟!

- بل سيخونوك إن إستطاعـوا .

- حـقـاً يا أبي ؟!

- حـتماً يا بني .

- أبي .. قل لي كيف مات أوزوريس كبير الآلهة ؟

- قتله شقيقه ست .

- قتله ؟! .. لماذا يقتل شقيقه ؟! .. وهل ست هذا يا أبي إله ؟

- نعم إله .. ولكنه شرير .

- هل توجد آلهة شريرة ؟!

- هو ست فقط .. ولقد طرده الإله الأكبر إلي الصحراء .

- وهل يـُفرض علي إله شيء دون رغبته يا أبي ؟!

- إذا أخطأ .. وحالة ست هذه خاصة جدا لا تعم علي باقي الآلهة الخـيـّـرة .

- وهل يخطيء الإله ؟!

أجابه الملك في إقتضاب :

- أحياناَ يا أمنحتب .. أحياناَ .

- وهل إذا ذهبت للصحراء للصيد ووجدته، فهل يقـتلني ؟!

- محال يا ولدي .. فهو ملعـون ومحـرم عليه التقـرب من باقي الآلهة .

- وهل أشقاء الآلهة مثل أشقاء البشر ؟

- نعم .. كما أن لهم آباء وأمهات وأسر مقدسة كاملة .

- أبي ؟! .. أنا لا أجد فرقاً بين الآلهة والبشـر .. فكيف إذن نفـرق بينهم ؟!

- من أصولهم .. فنحن أصولنا تعـود إلي الآلهة منذ الأزل .

- وما هـو الأزل يا أبي ؟

ظهرت علي الملك علامات الغضب وهو يقول لإبنه :

- أمنحتب .. إنك تفضي من سؤال إلي سؤال .. وهذا لن يؤدي بـك إلا إلي العــبث وإرهـاق أبيك بكثرة ظنونك .

إزدادت علامات التعجب والبراءة علي وجه إخناتون وهو يرد علي أبيه في إصرار :

- أريد أن أعرف يا أبي .

إعتدل الملك في جلسته، وأخد نفسا عميقاَ وهو يقول بنوع من الاستسلام :

- حسنا .. ماذا تريد أن تعرف ؟

- ماهو الأزل يا أبي ؟

- حقا أنت عنيد ! .. الأزل هـو بداية الخلق .. أي منذ خـَـلـَقَ الإله الأكبر نفسه وخَـلـَقَ هـذه الدنيا .

- وهل أوزوريس هو الإله الأكبر الذي خـَـلـَقَ نفسه وخـَـلـَقَ هذه الدنيا ؟

- لا .. يقال أنه الإله آتـوم .

- من الذي قال ؟!

نظر له أبيه وقال بحدة :

- أمنحتب .. لقد بدأت أغضب .

- أبي أنا لا أقصد أن أغضبك ولكني أريد أن أعلم شيئا أخيراَ .

- قـُـل .

- هل آتوم هذا أكبر من أوزوريس كبير الآلهة ؟!

- الآلهة الكبار كثيرون .. وكما قلت لك .. لكل إله وظيفته .. هل فهمت ؟

- فهمت يا أبي ولكن كيف خَلَق هذا الإله نفسه ؟!

- ألم ننته ؟! .. ألم ننته يا أمنحتب ؟!

- هو آخر أسئلتي يا أبي وأعـود بعـدها لأصـدقائي .

- لا أدري كيف .. لقد خـَـلَـق نفسه بنفسه وكفي .

- ألسنا مثله ؟! .. فكيف لا نعلم ؟!

- أنت صغـير علي هذه المناقشات يا أمنحتب ، وقلت لك كفي .

- إذا كنتُ أنا صغيرا ً فأنتَ كبير يا أبي .. فهل تستطيع أن تـَخـْـلِـق ؟!

صاح الملك في إبنه غاضبا وهو يقول :

- أمنحتب .. لا تتحدث معي في أمور كهذه .. إياك وهذا التفكير الذي سيكـفـرك بالآلهة .. ولا أريد أن ينشغل بالك إلا بما يقوله لك المعـلمـون .. هيا .. قل سمعاَ وطاعة يا أبي .

- ولكن يا أبي ..

- قل سمعاَ وطاعة يا أمنحتب .. هل سمعتني ؟

إنكمش الطفل خوفاً وردد بنظرات لامست الأرض :

- سمعاً وطاعة يا أبي .

مال الملك للأمام وأمسك كتف إبنه دامع العينين، ثم إبتسم له قائلاً بصوت حاول ان يكون خفيضاً لطيفاً :

- أحسنت .. أحسنت يا خليفتي .

إعتدل أمنحتب الثالث في جلسته علي العرش فجأة، وصفق بيديه صائحاً بعصبية وهو ينظـر لباب قـاعة العرش المغلق :

- أين ( با إري ) ؟

وبسرعة إنفتح الباب ودلف إلي حضرة الملك رجلاً متوسط العمر حليق الرأس، يرتدي ملابس الكهنة الكبار المنسوجة من جلد النمر، وقـد أحني ظهره تبجيلاً لمولاه الذي صاح به :

- خذ ولي العهد إلي المعـبد .. وقل لمعلمه أن يكثف من دروسه الدينية .. هيا .

أمسك ( با إري ) بيد إخناتون وهو مازال محني الظهر، لا يجرؤ علي النظر المباشر لمليكه وهو يقول :

- سمعا وطاعة يا مولاي .

نظر إخناتون إلي وجه ( با إري ) وقال له بعفوية وهو يمسح دموعه :

- هل لقنك أبي تلك الكلمات أيضا ؟!

وقف أمنحتب الثالث غاضبا وصاح في وجه إبنه قائلا :

- أمنحتب .. لا تتحدث إلا بإذني عند قدوم أي أحد .. ثم هل نسيت أني مولاه ؟! .. فكيف لا ألقنه كلماتي، بل أهـبه الحياة أو أقـتله إذا أردت .

ونظر للكاهن ثم أشار إليه بيده مكملاً صياحه :

- هيا .. نفـّذ ما قـلت .

إنتفض ( با إري ) وشدد من قبضته علي يد إخناتون، ثم تحرك به بعيداً عن الملك متراجعاً بظهره المحني وهو يردد مرتعشاً :

- أمـر مولاي .. أمـر مولاي .

وخرجا من قاعة العرش سريعاً .. وبمجـرد ما أن شعـر الأمير الصغـير بحـريته بعـيداً عـن نظرات والده، حـتي سـأل ( با إري ) الذي يرافقه للمعبد في خطوات لاهثة وقال له بعيون حزينة :

- قل لي .. لماذا أقوم بأداء صلوات إلي الآلهة وأنا من نسلهم ؟!

رد عليه الكاهـن بكلمات سريعة مثل خـطـواته دون أن يلتفت للصغير قائلا :

- عليك بسؤال معلمك الكاهن في معبد آمون يا ولي العهد .

نظر له إخناتون بتعجب وقال :

- هل آتوم كبير الآلهة أم أوزوريس ؟!

- إسأل معلمك يا مولاي .

- من مولاك ؟! .. أنا أم والدي ؟!

لاذ ( با إري ) بالصمت وهو يقود إخناتون الذي سأله بإصـرار طفولي :

- ألست كاهناً لتجيبني ؟!

- بلي ولكني لست مؤهلاً للإجابة علي تلك الإسئلة .

- أصغير أنت مثلي كما يقول أبي ؟!

- لست صغيراً ولكن هناك من أقدر مني للإجابة التي ترضيك .

- إنه سؤال بسيط .. أريد إسم كبير الآلهة جميعها حتي أؤدي صلواتي إليه .. ويقـوم هــو بإخبار باقي الآلهة .. فأنا لا أتذكرهم جميعا .

- معلمك سوف يجيبك .. فها نحن علي مشارف المعبد .

- هـل هــو أوزوريـس ؟! .. أم آتـوم ؟! .. أم رع ؟! .. أم آمـون ؟! .. أم أبــي ؟! .. أم مـن ؟! .. ربما يكـون ست وأنتم لا تعـلمون .

- ها قد وصلنا للمعبد .

- لابد من وجود كبير للآلهة .. أو ملك للآلهة .. مثل أبي .. ملك البلاد .. وهـذا الإلـه لا يموت حتماً .. ومنذ الأزل .. أليس كذلك ( با إري ) ؟

- معلمك سيخبرك بكل شيء .

- هل لي أن أسألك سؤالاً يا ( با إري ) ؟

- طبعا يا سمو الأمير .

- ما هي وظيفة أبي ؟

ظهرت إمارات خوف علي وجه ( با إري ) وسرعان ما سرد إجابته بآلية :

- مـ.. مولاي الملك .. إنه يحكم الناس ويتحكم بكل شيء من أجل صالح الجميع .. ولولا مليكنا لإنقلبت الدنيا فوضي .

- لا .. لا أريد وظيفته كملك .. بل أريد أن أعلم وظيفته كإله !.. ووظيفتي أنا كإبن إله !

إختلطت ملامح الخوف والحيرة علي وجه الكاهن المسكين وقال مُنهياً الموقف الذي شعـر بأنه استغرق دهراً :

- غرفة معلمك أمامنا .. وستتعرف بداخلها علي كل الإجابات التي تريدها يا مولاي .

نظر إخناتون إلي شعاع الشمس الذي سقط علي وجهه من وسط الأعمدة الضخمة للمعبد الكبير .. تألمت عيناه من نظره المباشر للشمس، فرفع يديه الصغيرتين ليقي وجهه ثم نظر إلي البـاب المغلق لغرفة الكاهن المعلم، وتهيأ لفتحه بعد أن لمح عليه خيالات قرص الشمس تتراقص أمامه .

( تمت )

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية