لا أعلم كيف بدأت تلك القـصة العجيبة .. ولأصدقـكم القـول لا أعلم أيضا كيف انتهت .. تتعجبون من ذلك حتما .. بالفعل لكم كل الحق .. فما حدث أثـّر في نفسي، وترك بشريط ذكرياتي عـلامة فارقة، لا يمكن نسيانها .. لقد كـنت جزءا من فيلم طويل لا أعـلم من مضمونه سوي المشاهد التي ظهرت فيها .. أما الباقي فمجهول لي .. لـم أعلم متي بدأ وانتهي .. وقد يكون ما زال مستمراً حتي اليوم بصورة أو بأخري .. إنه أحد ألغاز حياتي وأرجو أن تشاطروني ما حدث لعلي أجد السلوي والتبرير فيما مررت به ..
كنت أراه كل يوم وأنا ذاهب للجامعة .. كان أسمر اللون .. له شعـر مجعـد طويل أشعث شبيه بكرة السلك .. يرتدي ملابس قديمة، بالية، رثة لأبعـد الحدود، لا معالم لها .. حـافي القـدمين، وأصبح جلد أسفل قدميه سميكا متشققا كنعـال أحذيتنا .. خـاوي اليدين، وهذا طبيعي فما الذي يملكه ليمسكه؟! .. محني الظهر .. مطأطأ الرأس .. كان يسير في الطريق دون أن يعترض أحداً .. ولا يطلب أي شيء ولو حتي بالنظرات .. كنت أراه بتلك الملابس المهلهلة التي اقترب لونها من البني صيفاً وشتاءاً .. كان الفضول بداخلي قويا لأعـرف سـر هـذا الرجل .. عندما أمر بجانبه أشعر وكأننا من عـالمين متوازيين مخـتلفين .. كـنت أرتـدي ملابـس جـديدة متنوعة، وأنتعـل حذاءاً ثميناً، ومعي نقـود تكـفيني، وأسـرة تؤازرني، ومستقبل ينتظرني، وشلة أصدقاء تساندني .. أما هـو .. أأبصق عـلي نفسي خجلاً؟! .. ولكن ما ذنبي تحديداً؟! .. وهـنا يأتي سـؤال أهـم .. وما ذنـب هـذا الرجل علي ما هـو فيه؟! .. إنها تساؤلات تجـنح بنا الآن عـما أريد أن أعـرضه .. من هـو هذا الرجل؟! .. وكيف يعـيش؟! .. أهـو غـريب ضل الطريق؟! .. أهو مجنون؟! .. هـل هـو هـارب من اسرته أو من شيء ما؟! .. أأصــم هــو أم أبكـم؟! .. هـل له نـظـرة فـلسفية خالصة فيما يفعله؟! .. هل هو متعـلم أم جاهل؟! .. أيدرك حدود المجتمع الذي من المفترض انه يعيش فيه ويعلم الفرق بين الصواب والخطأ؟! ..
تمنيت أن أعـرف الحقيقة الغائبة عني .. وفي أحد الأيام اضطررت للمبيت عـند زميل لي يقـطن بالقرب من الجامعة التي ندرس بها .. وأثناء ذهابنا إلي المسجد فجراً رأيته .. كان نائماً .. بعـمق .. يفـترش الطـريق دون أدني تحـرج أو خوف .. الأسفلت سريره الوثـير .. وملابسه الرثة غـطاؤه الأثـير .. أما السماء فكانت سقـف بيته الكبير .. لا أنكر أنني قد بكيت بحرقة أثناء سجودي بالصلاة في تلك الليلة .. لقد تدني مسـتوى هـذا الإنسان حتي وصل إلي حال الحيوانات الضالة في الطريق بل أدني .. فتلك الكائنات تجد المأوي في بيت مهجور، أو خرابة بلا سور، أو حتي أسفل سيارة متوقفة؛ لتحـميها من البـرد والمـطـر، ووهـج الشمس، ونظرات البشـر .. إذن فهذا الرجل لا يمتـلك سوي ما فـوق جسده إذا اعتبرنا ملابسه شيئاً يُمتلك .. كيف يعـيش هـذا الشخص؟! .. كيف يعـيش؟! .. وددت لو أسأل كل البشر لأعرف الإجابة العـسيرة .. كم تمنيت أن اعـطيه مبلغاً من المال، ولكـني خـشيت رد فعـله .. إلي أن قررت ذات يوم ألا أذهـب للجامعة وأتتبـع هذا البائـس .. في الصـباح الباكر جداً وقـفت علي قارعة الطريق منتظراً ظهوره .. كان منظري عجيباً وملامحي تبعـث بمن يراها بأنني أقـف في استقبال المهـدي المنتظـر وليس لرؤية رجل نعـتبره من المنظور الاجتماعي والنفسي أحد مجاذيب الشوارع .. لمحته آتيا من أحد الشوارع الجانبية .. كان يمشي ببطء .. وكان ينظر إلي الأرض دائماً .. ثم يقف فجأة، لعـدة دقائق .. كأنه تمـثال .. ثم يكمل سيره البطيء .. توقف بجانب كيس قمامة ملقي والتقط منه بضع لقيمات وضعها في فمه من دون تقزز ولا خجل ثم استكمل سيره .. عبـَر الطريق الرئيسي أمام عـيني المذهـولتين دون أن يلـتفت يساراً ويميناً .. هل سمع هذا الرجل أصوات المكابح الهادرة للسيارات التي كادت أن تدهسه وتحوّل المنطقة إلي كارثة؟! .. هل وصلت لمسامعه عبارات السباب من قائدي تلك السيارات وأصوات أبواق التنبيه المستمرة منهم؟! .. لم يلتفت لأحد أو يعـطي أي انفعال، واستمر في سيره حتي وصل للناحية الأخرى من الطريق سالماً بأمر من خالقه .. توقف أمام أحد مطاعم الكباب، وطالت وقفته .. كان نظره مستقراً أسفله وليس باتجاه ما كان أمامه بالمحل من أطـايب اللحوم .. تري أيستمتع بشم رائحة الشواء الشهية أم أنه توقف بمكانه صدفة ليستريح؟! .. خـرج من المحل رجل ضخم يبدو أنه مـالكه أو مـديره وبـدأ في سباب رجلنا المسكين ولوّح له بيده مهدداً، كأنه يبعد كلبا أجرب علي وشـك اختطاف قـطعة لحم! .. أكمل سيره دون أن يظهر عليه أي اهتمام بما يحدث حوله .. كان لا يطلب أي شيء من المارة .. وفي نفس الوقت لم أر من حاول أن يعطيه أي شيء .. لعل السبب في منظره المنفر الذي يعطي انطباعا برد فعل غير معلوم .. وفي هذا اليوم تكاثرت السحب في السماء، واختفت الشمس وراءها خجلاً .. وبدأ سقوط المطر .. وازدادت شدته .. وفجأة .. توقـف الرجل عن السير .. ورفع رأسه ونـظـر للسماء .. كانت أول مرة ألمحه فيها ينظر لأعلي .. وللمرة الأولي أري عينيه الثابتتين تنظران لأعلي .. سقط ماء المطر علي وجهه بغزارة، وأحسست وقتها للحظات أن لون بشرته الأسمر ليس هو لونه الحقيقي وإنما هو لون أفتح شاهدته لبرهة مالم تخدعـني عيناي .. كان لا يزال ينظر للسماء بثبات .. أكان يدعـو الله في سره؟! .. أم يشكره علي نعمة المطر؟! .. مـاذا كان يدور في خـَـلـَدِ هذا الرجل؟! .. ملامح وجهه لم يبد عليها أي انفعال كالعادة .. ابتلت ملابسه المهترئة فأصبح شكله مثيراً للشفقة أكثر مما كان .. عاود سيره مرة أخري بعد أن هدأت حدة الأمطار، وعادت نظراته للأرض مرة أخري .. وفجأة .. اتخذت قراري بأن أعطيه كل ما معي من نقود .. ركضت ناحيته في ثقة ووقفت أمامه .. وتوقف هو بدوره لما أحس بمن يقطع طريقه .. مددت يدي في جيبي ثم أخرجت النقود وأظهرتها أمامه بين أصابعي .. كانت نظراته كما هي لأسفل، لذا ملت بجذعي للأمام - دون أن أجرؤ علي أن أخطو بقدمي أكثر - حتي يصبح ما في يدي بمستوي نظره .. وظل هذا الوضع قائماً لمدة دقيقة كاملة تقريبا .. شعرت بأن الـزمن قـد توقـف عند هذا المشهد الرئيسي .. أو كما يسميه السينمائيون (الماستر سين) .. أو كما يسميه الأدباء العقدة وقمة الحدث .. وبدأت يدي الممدودة بالارتعاش .. أمعنت النظر له لعلي ألمح أي بارقة أمل، ولكن كان هذا الشخص الغريب واقفا متسمراً كالتمثال .. وفجأة .. وبدون أية مقدمات صرخ دون أن ينظر لي قائلاً بقوة (لا أريد منكم شيئاً) .. ثم عاود سيره مع تعمده الارتطام بيدي الممدودة بالنقود، لتسقط الجنيهات القليلة علي الأرض، وسـرعـان ما كانت من نصيب أطفال شوارع متسولين، ظهروا فجأة وكأنهم كانوا يرقبون الموقف ويتوقعون نهايته .. إذن هذا الموقف تكرر مع أناس من قبلي معه .. فلابد من وجود بشر غيري حاولوا مساعدته وإلا فنحن في غابة بلا رحمة .. تسـمرت في مكاني وإن تعـلقت عـيناي بدهـشة علي هذا الرجل الذي ابتعد ببطء عن مرمي بصري حتي اختفى في أحد الأزقة .. وكانت هـذه آخر مرة أراه أثناء دراستي .. لا أعلم هل ابتعد عن هذا الشارع ليتجنب لقائي تعـفـفاً، أم أنني انشغلت بأمور أخري ولم ألمحه رغم تواجده .. حقيقة لم أعـلم السبب .. ومرت الأيام والسنين ونسيت هذا الموقف بل نسيت أمر هذا الرجل برمته .
* * * * * * *
بعد مرور سنوات بعد تخرجي من الجامعة، وبعد التحاقي بالعمل في إحدى شركات المقاولات الكبرى، تقدمت لخطبة فتاة طيبة، وسارت الأمور علي ما يرام، وبدأت في تجهيز منزل الزوجية .. ولما كانت التزاماتي كبيرة قررت أن أدخل في جمعية لأحصل علي مبلغ من المال يساعدني في إنهاء ترتيبات زواجي .. وبالفعل حصلت علي المبلغ .. كنت أستقل سيارتي الصغيرة وقد انشغل بالي بأولويات إنفاق النقود .. كانت كلها أولويات في الحـقيقة .. كنت مـاراً بالقرب من الجامعة .. وفجأة لمحت شيئاً يمر أمامي فضغـطت مكابح السيارة بكل قـوة، حتي شعـرت بعـجلة القـيادة تضغـط بوحشية علي صـدري .. سعـلت وأخـذت أنفاساً متلاحقة بقـوة وأنا انظر للشخص الذي كـدت أن أصدمه .. لم يبد عـليه أي ذعـر أو يتـنح جانباً .. نظرت له بتمعن وهممت بسبه غير أنني بدلاً من ذلك شهقت مذهولاً .. لقد كان يقف أمام سيارتي هذا الشخص البائس المسكين المتعفف الـ .. ماذا أسميه ؟! .. أنتم تعلمون حتما من أقصد .. يا للهول ! .. إنه بنفس هيئته! .. نفس ملابسه! .. نفس ملابسه! .. نعم أكررها ذهولاً .. وطبعاً بنفس طريقة تخطيه للطريق .. ترجلت من سيارتي مرتعشاً .. لم أبال بأن السيارة قابعة في نهر الطريق أو انها تعيق المرور .. لم أهتم بسيل الأصوات المعترضة الهادرة من آلات التنبيه وأفواه السائقين من خلفي والمارة .. نظرت إليه وأنا أتـقـدم نحـوه غـير مصدقاً لما أري .. كيف يعـيش هذا الرجل؟! .. أريد إجابة من أحد الغاضـبين حولي .. إنهم غاضبون لأن أحد الأشخاص قد عـطـّلهم بالطريق لدقائق! .. ولم يغـضبوا من أجل حال هـذا البشري .. أيرضي أحدهم أن يكون مكان هذا الرجل؟! .. أيتـقبل أحدهـم أن يعـامل كحـيوان أو أدني؟! .. حتما لا .. إذن لماذا يغضبون الآن وهم أولي بأن يتركوا سياراتهم وأماكنهم ويتبرعوا ببضع دقائق من عمرهم لحل معضلة حياة إنسان بكاملها .. ألا يهـتمون؟! .. ليكن .. أكمل البائس سيره حتي ارتقي رصيف الجزيرة الوسطي بالطريق السريع المتوقـف الآن .. وهنا توقف متسـمـراً كعــادته كتمثال أصم .. تبعته ووقفت أمامه .. طبعا لم أر وجهه لنظره المستمر بالأرض .. كم تمنيت أن أساعـده، ولكن جملته الوحيدة التي سمعتها منه في الماضي عادت في أذني وهي تدق كألف جرس إنذار وتحذير .. ولكني مصمم .. أخرجت نقود الجمعية من جيوبي .. النقود كلها .. بكلتا يدي .. ومددتهما أمامه .. هيا .. لا بد أن يأخذ النقود، فهو الآن علي رأس أولوياتي .. نعم .. إنه إنسان .. إنسان طالته يد النسيان من أخيه الإنسان .. لا بد أن يعيش كريما .. وتكرر نفس الموقف .. إنه (الماستر سين) الثاني والأخير .. وتوقف الزمن .. حتي شعرت بأن الأصوات كلها قد انعدمت .. والحركات شلت .. والكل في انتظار رد فعـل هذا الشخص .. إنه البطل ونجم الشباك الآن رغم أنـفه .. ارتفع رأسه ببطء .. وارتفعت ضـربات قــلبي بدورها .. وبدأت يدي بالارتعاش .. إنـها بادرة إيجـابـية منه .. وللمرة الثانية أري عـينيه .. ولكن مهلا .. إنها نظرة مختلفة عـما رأيتها يـوم المطر .. نظرة ليست ثابتة .. زائغة .. مشـتتة .. دقـقت النظر في ملامح وجهه الظـاهـر أمامي .. كان فمه يضحك .. ضحكة بلهاء .. أخذ يهـز رأسه .. ثم بدأ يقـفز في مكانه ! .. وأخذ يردد جملة متقطعة (منـ .. منـ .. منكم .. أي .. أي .. شـ .. شيء .. هه .. لااا .. لا أريد .. هـ .. ههه .. هاها ها) .. كان صوته واهناً محشرجاً .. تركني وشرع في الركض بعيدا كالمجاذيب، وتبعه أطفال متسولون وقد انتابتهم موجات ضحك هستيرية سمعت في وسطها جملة (لقد بدأت الحالة .. هيييييييييييه) .. واختفي من أمامي في ثوان .. لقد جن هذا الإنسان .. فـقد عـقله .. لم يستطع التحمل .. فات الأوان .. وعادت الأصوات الهادرة إلي مسامعي أقوي مما كانت .. وهنا افلتت يداي النقود .. وطارت في الهواء .. وتهافت عليها الناس في الطريق .. الناس الذين غـضبوا من أن الطريق توقف بهم لدقائق، يتصـارعـون علي ورق البنكنوت الطائر .. الآن عندهـم وقت لاصطياد المال، ولو أضاعـوا عمراً بأكـمله دون أن يحـزنوا أو يندموا .. وأصبحت تلك الأوراق الملونة هي البطل بعد أن خطفت الكاميرا كما يقولون من البائـس المنسي .. كنت لا أزال متسمراً في مكاني وقد وضعت كفي علي أذني تألماً .. الأصوات تزداد .. وتزداد .. كانت نظراتي تحمل الذهول المفرط .. ذهول الدنيا وقسوة مجتمعها وغرابة أحداثها .. والناس يتقافزون من حولي .. تماما كبطلنا منذ لحظات .. الفرق .. أن هـؤلاء الناس من حـولي كانوا ظاهرياً عــقلاء .. فقط .