- مطار إمبابة؟

- حسنا، تفضل.

قلتها للسائل في فتور حيث إنني أقطن بالقرب من شارع الهرم، وطريق هذا المطار وقتها كان طويلا مملا مليئا بالإصلاحات والتعديات والشوارع غير المعبدة... ولكن هناك قاعدة اتبعتها طوال فترة عملي كقائد سيارة أجرة ولم أتنازل عنها قط، وهي ألا أقـول كلمة (لا) في بداية يوم رزقي إلا في شهادة (لا إله إلا الله)... استقل الرجل السيارة وجلس بجواري، وانطلقت بسرعة متوسطة قاطعا أقصر الطرق في صباح ذلك اليوم لتجنب التكدسات المرورية... كان الراكب رجلا وقورا، مهندم الملابس، ثابت النظرات، قليل الحركات... ولم يتحدث بأي كلام ولم يَبْدُ عـليه أنه من هواة التحدث لقتل ملل طريقه، فلم أحـاول من جانبي فتح الأحاديث معه... وفي منتصف المسافة تقريبا أشار لي شابان فجنحت بالسيارة ناحيتهما وتوقفت، فقال لي أحدهما:

- إمبابة من فضلك.

 

فقلت لهما:

- طريقي مطار إمبابة ولن أدخل في طرق فرعية، سأقلكما بشرطين، أن تنزلا في الطريق الرئيس وأن نستأذن الرجل الذي بجانبي لأن من حقه أن يرفض.

جاء الرد فوريا من الرجل قائلا بصرامة:

- لاتوجد مشكلة عندي... إنه رزقك.

قال لي الشاب الآخر وهو ينحني بجذعه لينظر للرجل:

- سنستأذن الرجل الكريم في الذهاب للعنوان تحديدا فنحن لا نعرف المنطقة جيدا.

قلت للشاب بعصبية:

- لا استئذان من فضلك، ولا تحرجه أو تحرجني، أيناسبكما ما أقول؟

اعتدل الشاب بقامته وأشار بيده بالرفض فانطلقت من فوري وسط صمت مستمر من الرجل بجانبي... وبعد حوالي خمس دقائق من هذا الموقف أشار لي رجل عجوز فتوقفت بجانبه، وقال بصوت خفيض:

- المستشفى العام أمامك على بعد حوالي أربع محطات... أتقلني؟

- طبعا يا والدي... تفضل... فهي في طريقنا.

جلس العجوز في الخلف... وبعد تحركي بقليل استوقفني شاب يبدو عليه العجلة وقال لي:

- آخر هذا الطريق.

هززت رأسي بالموافقة فجلس الشاب بجوار العجوز في الخلف، وظل وجه الرجل بجانبي جامدا دون أي انفعالات... وبعد قليل قال لي العجوز:

- هنا يا ولدي... المستشفى عند هذه الناصية.

توقفت ففتح العجوز باب السيارة بوهن، وقبل أن يخرج منها أخرج من ثيابه ثلاثة جنيهات، وقال لي بلهجة واهنة صادقة:

- أقسم بالله العظيم يا بني هذا كل ما معي من نقود.

التفت إليه لا إراديا قبل أن أسترق النظر للرجل من جانبي والشاب من خلفي، فلم أجد سوي نظرات تعجب حائرة متجمعة أمامنا... لاحظت ارتعاشة يد العجوز الممدودة لي، فأخرجت من فوري بعض النقود من جيبي وقدمتها له دون أن أنظر لها أو أعرف قيمتها، وقلت له بقوة:

- لا أريد الأجرة يا والدي، وهاهي نقود تحت أمرك إذا كنت في أزمة.

لم ينظر العجوز لما في يدي لأنه خرج من السيارة متعففا ومتمتما ببعض الدعاء لي، ثم اختفى داخل المستشفى التي أمامنا... أعدت النقود لجيبي وانطلقت وسط صمت مطبق ساد ثلاثتنا كالعادة... وبعد نحو عشر دقائق قال لي الشاب من خلفي:

- عند أول الشارع القادم.

توقفت كما قال، ووجدت يد الشاب ممدودة بجانبي وبها ورقتان من فئة الجنيه، وقال صاحبها بصوت فج شبه آمر:

- لا أملك سواهما... خذهما.

التفت له لحظة قبل أن أنظر للعداد أمامي ثم التفت له مجددا وقلت ببرود:

- أجرة توصيلك خمسة جنيهات.

تردد الشاب للحظات وهَمّ بالرد غير أني تابعت قولي بالبرود نفسه وقد اختلط ببعض الوعيد:

- وإذا كررت أنك لا تملك غيرهما ستصبح الأجرة عشرة جنيهات.

اتسعت عينا الشاب وضم قبضته التي بها الجنيهان غاضبا، فصحت به متوعـدا:

- وإذا نطقت بكلمة أخرى ستصبح أجرتك عشرين جنيها وعشرين صفعة على وجهك وسأصحبك لقسم الشرطة مجانا.

دفع الشاب الخمسة جنيهات وترك السيارة وأغلق بابها بعنف وهو يتمتم بعبارات غاضبة لاسترداد الكرامة لم أحددها، فلم أبال به.. التفت خلسة للرجل الجالس بجواري لرؤية أي تعبير بوجهه على ما حدث فكان بهيئته الصامتة الجامدة نفسها... قبـّـلت النقود في رضا ووضعتها في جيبي، ثم انطلقت... وعند اقترابي من المطار المنشود وجدت أمامي دراجة نارية تابعة للشرطة... كان الطريق خاليا إلا من هذه الدراجة التي تسير على مهل في منتصف المسار الذي كان ضيقا في تلك المنطقة، فلم أجد المتسع الذي يسمح لي بالمرور والتخطي... أطلقت بوق التنبيه، فلم يستجب قائد الدراجة وظل على حالته من التباطؤ كأنه لا يسمع أو يشعر بأحد... أطلقت البوق مرة أخرى ولكن ظل الحال كما هو... اضطُررت أن أسير وراء الدراجة مباشرة حتى لمحت انحرافة منها جهة اليمين، فمرقت بجانبها بمهارة من يسار الطريق وهممت بالتسارع غير أن سارينة دراجة الشرطة من خلفي انطلقت بغتة... نظرت في المرآة فوجدت قائد الدراجة يشير بيده لي في عصبية أن أتوقف... تعجبت... فأنا لم أفعل شيئا مخالفا حتى في عملية التخطي التي قمت بها... انحرفت بسيارتي يمينا، وقبل أن أتوقف خاطبت الراكب الصامت مستأذنا:

- عفوا، لحظات لأرى سبب ذلك.

أومأ الرجل برأسه متفهما... توقفت الدراجة خلف سيارتي تماما، وترجل قائدها الذي يرتدي ملابس الشرطة الرسمية بخيلاء ووقف بجانب النافذة التي بجانبي... نظرت له فوجـدته يتفحص جانب السيارة وأرقامها ثم التفت لي ببرود وقال آمرا:

- أعطني الرخص.

- لماذا؟!

- رخصك لو سمحت.

- ماذا فعلت لتطلب أوراقي؟

- لقد خالفت القانون بتجاوز السرعة المحددة وكدت تصدم دراجتي بقيادتك الهمجية.

- أنا لم أتجاوز سرعة ولم أقُد برعونة، وأنت لم تعطني الفرصة الجيدة للتخطي الآمــ...

صاح في وجهي آمرا وهو يضرب سقف السيارة بكفه:

- رخصك بسرعة.

وهنا تدخل الرجل بجانبي والتفت للشرطي وقال له بهدوء:

- هذا السائق لم يفعل شيئا مخالفا.

نظر له الشرطي ورد عليه في لا مبالاة:

- ليس لك دخل.

أكمل الرجل حديثه وقال للشرطي بنوع من القوة:

- أنت المخطئ.

بهت الشرطي مما سمع ونظر للرجل نظرة نارية وصاح به قائلا:

- ليس لك دخل يا هذا... من أنت أيها ..

وهنا صاح الرجل بجانبي وانفجر بمحدثه قائلا بصوت جهوري:

- أنت الذي كنت تتبختر بدراجة عملك أيها المستهتر، وها أنت تستخدم سلطتك –بالظلم - على هذا الرجل، ثم تسألني من أنا!... أنا العميد (...) مدير مرور (...)... فهل علمت؟!

تراجع الشرطي للوراء مصعوقا وكاد أن يسقط أرضا وهو يؤدي التحية مرتعـشا قائلا للعميد في رعـب:

- أعتذر يا باشا... أعتذر يا معالي الباشا.

ثم شرع في الالتفاف من أمام السيارة مهرولا للوصول للعميد جهة بابه، فصاح به الأخير مُلوِّحا بيده في عصبية :

- اِذهب من أمامي وإلا عاقبتك.

وفي لمح البصر كانت الدراجة قد التهمت الطريق مختفية من أمامنا هي وقائدها المصدوم... لم أنبس ببنت شفة وأنا أكمل طريقي... ولم أدرك الوقت الذي مضى حتى وجدت نفسي أتوقف في المـطار قائلا للعــميد بجانبي:

- حمدا لله على سلامتك يا باشا.

- الله يسلمك.

ونقدني مبلغا من المال يعادل ضعفي ما أشار إليه العداد، فقلت له بأدب جم:

- هذا كثير.

التفت لي قبل أن يغادر السيارة وأعطاني بطاقة بها بياناته، وقال بابتسامة رأيتها على وجهه لأول مرة:

- اتصل بي إذا احتجتني... أنت رجل طيب.

ابتسمت بدوري وأنا أقول له قبل أن أمضي:

- أكرمكم الله، وصحبتكم السلامة.

انطلقت بالسيارة وأنا أتذكر الكثير من المواقف التي مررت بها مع الركاب في سيارتي طوال سنين طويلة، ابتسمت وأنا ألمح شخصايشير لي فجنحت تجاهه ووجدت نفسي أتمتم داعيا:

- اللهم لك الحمد، اللهم إني أعوذ بك من شر الطريق وغدر البشر.

( تمت )

التدقيق اللغوي: أبو هاشم حميد نجاحي

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية