- بيت جميل الصنع... بديع التـنسيق... مؤقت العنفوان... تجتمع به عناصر الضعف والقوة في آن واحد... يقف شامخاً وسط طبيعة خلابة... محدودة... زمنية... بداخل البيت خدم كثيرون، يعملون علي مدار الساعة دون توقف... وحتي آخر نفس... يعتمد وجود وبقاء هذا البيت قائما في مكانه علي سببين... الأول وجود الكهرباء في أرجائه وأجهزته، والثاني بقاء قاطنه... أو زائره بالمعني الصحيح... والذي جاء من أعماق المحيط، ولكنه لا يتذكر مؤقتاً تفاصيل رحلته التي جاءت به إلي هذا البيت... ويكون هذا الزائر علي نفس شاكلة بيته... ومن شكل البيت وتحديداً واجهته نعرف صفات زائره بالفراسة... بيت بسيط... بيت معقد... بيت كئيب... بيت مهيب... بيت صغير... أو بيت كبير... أحياناً نراه قصراً... أو كوخاً... كل ذلك متوقف علي كينونة الزائر واختياراته... ورغم أن البيت متوقف بأكمله علي وجود الزائر به، لكنه لا يطيق وجوده بالداخل طوال الوقت... كما أن الزائر يضيق بحجم البيت المحدود واختلاف مادته، فيتركه لبعض الوقت ويتـنزه ذاهباً للمحيط... ولكن لا يرحل بعيداً... فقط في حدود شاطئه... حيث ينتعش متنفساً الصعداء ويري به بعض الرفاق وربما الأعداء، وأحياناً يتسلم رسائل قد يدرك مغزاها وقد لا يتذكرها علي الإطلاق...
قد نرى البعض يتعلق بسحر المحيط ولمس مياهه الصافية، والبعض الآخر يلعب بالرمال ويشكل قصوراً منها دون أن يشعر بالمحيط أو ينظر له... وفي أثناء تلك النزهة يستريح البيت والخدم... ويسترجع الزائر توازنه مرة أخرى... ثم يعود للبيت... وهكذا بنظام دوري دقيق... أحيانا يقف الزائر في شرفة بيته، ويتفكر في حال المحيط وما وراءه، خاصة إذا طالت فترة بقائه في البيت وأحس بالضعف... أما الغالب للأسف فنري الزائر يرتع في البيت ويتـلذذ بالطبيعة ناهلاً منها ما يستطيع، غير عابئ لوجود هذا المحيط اللازوردي اللانهائي بالقرب منه... وفي لحظة محددة... وبقرار ليس بيده... تنقطع الكهرباء عن البيت فجأة، ويرحل الزائر من البيت بلا عودة مرغماً أو مغرماً... يذهب متجهاً نحو المياه العميقة... من تعوّد علي المحيط وأدرك وجوده منذ البداية، تكون السكينة من نصيبه في هذه الرحلة... ومن يصطدم بحقيقته لحظتها يكون الروع رفيقه... وعندما يختـفي الزائر وسط أمواج المحيط، يترك الخدم هذا البيت من فورهم ويغادرونه بلا رجعة كأشباح متبخرة... يندثر البيت سريعاً ويتآكل... وتختفـي الطبيعـة من علي شـاشـة مؤقـتة منصـوبة أمام شاطئ المحيط... ويتحطم الزمن علي صخرة اللانهـاية الأبـدية.
يصمت الشيخ عن الحديث وقد أرخي جفونه وتقارب حاجباه الأبيضان في هدوء وهو يتمتم لنفسه بكلمات غير واضحة أشبه بالتسبيح والدعاء... اعتدل المريد في جلسته أمام الشيخ وقد ظهرت عليه علامات التعجب قائلا له:
- عفواً يا شيخنا!... ولكني بعد أن استمعت لتلك القصة المشوقة لم أعرف بعد علاقتها بإجابات استفهاماتي.
ظل الشيخ علي هيئته ولم يتحرك من جسده الساكن إلا فمه متمتماً بما لم يدركه الرجل أمامه والذي سأله كالملهوف:
- ما الحـيـاة الدنيا؟... وما المـوت؟... والعالم الآخر؟... وما حـقـيقـة الـنـوم؟... وطبيعة النفس والروح، وعـلاقـتهما بالجـسـد؟
تطلع الشيخ إلي وجه السائل بعيون لامعة وقد توقف عن التمتمة، وقال له بصوت خفيض رخيم لا يخلو من انفعال:
- الحياة الدنيا هي الطبيعة والخدم... العالم الآخر هو المحيط... الموت هو رحلة العودة إلى المحيط... والنوم هو النزهة علي شاطئ المحيط...
توقف الشيخ عن الحديث قليلاً وهو يتـفحص عيني المريد المشدوهتين وأكمل بصوت مرتـفع:
- الجسد هو البيت... الروح هي الكهرباء... والنفس يا بني هي الزائر.
عاود الشيخ إرخاء جفونه وتمتم بصوت مسموع مما مكن الرجل من أن يسمع التسابيح والأدعية .