- ها هي... ستة ستة... اثنا عـشـر... وخمسة خمسة... اثنان وعـشرون... وستة... ثمانية وعشرون... واثنان... ثلاثون... إذن أكسب ستة.

التقت أعين أصدقائي الثلاثة الملتفين حول طاولة اللعب لوجهي المبتسم وأنا أضع قطعة الدومينو الفائزة علي الطاولة، ثم رشفت بعض الشاي ملتفتاً إلي من حولي وتساءلت ببراءة وعفوية:

- لماذا يسمون هذا النوع من اللعب دومينو أمريكاني وأنا لم أر أمريكياً يلعب هـذه الطريقة من قبل؟!

نظر لي صديقي الجالس عن يميني وقال من فوره متهكما بسرعة بديهة:

- هذا الموضوع له تفسيران لا ثالث لهما... أن تكون هذه التسمية إجبارية علي ألعـابنا، وإما نحن من أطلقنا عليها أمريكاني لأن بها بعض الذكاء.

 

ضحكنا بصوت عال حتي استحوذنا علي نظر واستياء من حولنا، فساد الخرس وسط نظرات بيننا حملت الكثير من الضحكات المكتومة. نظرت لصديقي هذا وقلت له مستمتعاً متهكما:

- دورك أيها السياسي القدير.

نزل ببصره علي قطع الدومينو الخاصة به والمرصوصة أمامه بحيث لا يراها غيره، وفكر لبضع ثوان قبل أن يتمتم وهو يضع قطعة علي الطاولة بغير اهتمام:

- لا مكسب مرة أخري... أنا خاسـر لا محالة هذه المرة.

ضحك الصديق الذي علي يمينه والقابع أمامي وهو ينظر للقطع الخاصة به والتي وضعها في راحة يده لمزيد من التكـتم وقال لصديقي الأيمن:

- من يصدق أنك الخاسر بعد بدايتك الحافلة بالمكسب.

ثم أكمل بعد تفكير للعبته القادمة، ووضع قطعة علي الطاولة وهتف:

- أنا قادم... عشرون... أكسب أربعة.

نظرت له فوجدته يلتفت إلى الصديق الذي علي يمينه والقابع يساري، وقال له شبه ساخراً:

- لو كنت تعلم قواعد اللعبة لكان دورك الآن.

فالتفت له الصديق بعد أن ألقي نظرة لامبالية للقطع الموضوعة علي الطاولة ثم أخذ نفساً عميقا من النارجيلة الموضوعة بجانبه، بعدها أخرج من فمه دخاناً كثيفا وقال لمحدثه:

- قلت لكم من قبل لا أجد لذة في العبث وملاعـبة الحظ.

فرد عليه وهو ينظر له متهكما:

- وما الذي تفعله الآن معنا في هذا المقهى سوي العبث وملاعبة الحظ والدخان وأضـف إليهما إهدار الوقت والصحة؟!

ضحكنا جميعا بلا استثناء ولكن بتحفظ بعض الشيء، وبعد ذوبان الابتسامات سريعاً من فوق الوجوه أكملت الحوار متحدثا إلى الصديق المحتج:

- في بعض الأحيان تحتاج عقولنا إلى بعض التعطيل والا احترقت وجن جنوننا.

فرد عليّ قائلا بجدية لا تليق بجو اللعب:

- إنها تتعطل أثناء نومنا... ألا يكفي هذا!؟

اصطبغ وجهي بملامح جدية للحظات وأنا أقول له بشبه انفعال:

- لعمري إنها تعمل في نومنا أكثر من استيقاظنا... الجسد فقط هو الذي يستريح وليس العقل.

اعتدل صديقي هذا وواجهني في جلسته وهو يقول بذات الجدية:

- وهل تعتقد أن اللعب هكذا يعطل عقولنا؟!... إنها تعمل كحاسبة نشطة ربما يكون إجهادها الآن أكثر منه أثناء أعمالنا.

- هذا أكيد.

التفتنا جميعا بتعجب ناحية مصدر الصوت، فلم يكن هذا التعقيب صادر من أحد منا، وفوجئنا بوجود رجل طاعن في السن يحملق فينا بغضب ويبدو أن مجلسنا الصاخب قد أفقده الهدوء الذي ينشده فعقب بجملته تلك... نظرنا له للحظات واجمين وكنا علي شفا الضحك حتي البكاء من الموقف المحرج وحال الرجل، ولكننا بنوع من الاحترام لسنه التزمنا الصمت، وعادت رؤوسنا لرقعة الطاولة قبل أن أرمي بصوت هامس ولكن مسموع جملة (شكراً يا حاج).

عـقــّب الصديق الخاسر في اللعب حتي الآن وقال كمن يلقي بكلمة النهاية:

- إنه الهروب يا أصدقائي.. هذه الحـقيقة المؤسفـة.

وتـفــرّس في وجوهنا الصامتة وهو يكرر الكلمة ببطء:

- الهـــروب.

التفت له ونظرت في عينيه مباشرة وقلت باستياء غير خاف:

- كيف تهرب وأنت تملك كل الأسلحة؟!- أسلحة؟!... هه... أي أسلحة مثلا أمام رجل مفتول العضلات ولكنه أعـزل ويواجه أسـداً؟!

- يمكن أن أختبئ لأستعـد لقتـله بالوسيلة الصحيحة، ولكن هذا لا يعد هروبا... الهروب يا صديقي عندما تركض فزعا وتترك الأسد ليغـتـالـك بغتة في أي وقت... لابد من المواجهة.

-سأستعد له طبعا ولكني سأوجهه فقط إذا صادفني في طريقي، ولن أترك باقي خصومي من أجل عـدو واحـد.

حاولت أن أخرج من دائرة الحوار المفرغة تلك وانهي هذا النقاش المشتت، فقـلت له:

- خذ وقتك الكافي للتفكير حتي لا تندم بعد ذلك، فالحظ ليس كل شيء... فها نحن الآن نأخذ وقتا طـويلا قـبل أن يضع أي منا قطعة اللعب الخاصة به... نحن متـفـقـون علي أن الحـياة مثل اللعـبة، ولكن لعقولنا دور أساسي في هذه اللعبة.

ونظرت إلى الثلاثة علي الترتيب ثم سألتهم:

- أليس كذلك؟

تمتم الصديق الذي أمامي قائلا بعدم اهتمام:

- ربما.

وقال الصديق الذي علي يميني مدافعا عن رأيه وهو ينظر لقطع الدومينو:

- أني أؤيد الفكرة التي تقول أن الحياة مثل الحرب... كر وفر... التفكير والحظ يلعبان دورهما بصورة متساوية.

صمت للحظات ثم أكمل بمرارته المعهودة:

- ولكن معظمنا خاسر في النهاية.

قال الصديق المحتج الجالس يساري معقبا علي كلامي وهو ينظر لي:

- لو كنت تقصد أن الحياة مثل هذه اللعبة فأنت علي خطأ، فالحظ بها هو السابق وتفكيرك هو اللاحق... أما الحياة فتـفكيرك هو الأساس فيها وحظك يأتي في مرتبة ثانية.

والتفت إلي صديقي اليائس الجالس عن يميني وقال له:

- والخاسر فقط هو الذي لا يفكر ويترك الحظ ليلاعبه.

رفعت يدي ليصمت الجميع وينتبهوا لي، ثم قلت لهم وأنا أنظر الي سقف القهوة مفكراً:

- أري يا أصدقائي أن نغير كلمة الحظ بكلمة أوقع تأثيراً وأصدق قولاً.. ألا وهو القـدر.

صاح الأصدقاء الثلاثة في وجهي دفعة واحدة منبهرين أو متظاهرين بالفهم علي حسب درجـة تلقـيهم وإدراكهم لكلامي... حتى انتبهنا إلي صاحب القهوة يقف أمامنا وهـو يقول لنا بصوت أجش وعيون ناعـسة:

- معذرة يا شباب... سنغلق الآن، فلقد قاربنا علي الصباح... الحساب من فضلكم.

رميت ما تبقي معي من قطع الدومينو علي الطاولة، ونهضت وأنا أنظر إليهم قائلاً:

- أما هذا فهـو القـضاء والقـدر.

ضحكنا وحاسبنا الرجل الذي تابع مغادرتنا للمكان بعيون غاضبة.

( تمت )

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية