ثمَّة لحظات يُرِيد المرء أن يوتر عقله وقواه إلى أقصى حدود الألم؛ حتى تنبجس المعرفة كشرارة، فإذا بطُيوف من النُّبوءَة تَجتاح النفسَ المرتعشة، النفس القلقة، لتنبِّئها بالمصير الذي ينتظرها. إنَّ كياننا كله -وقد جرفه الظمأ إلى الحياة بأيِّ ثمن -يستَسلِم عندئذٍ للأمل، مهما يكن هذا الأمل أعمى، ومهما يكن عنيفًا، ويَنأَى عن المستقبل بكلِّ ما فيه من مجهول وسر، يُنادِيه أن يأتي إن صَحَّ التعبير، يُنادِيه ولو كان مشحونًا بالعَواصِف والزوابع، حسبه منه أنَّه الحياة.
(دوستويفسكي، نيتوتشكا نزنفانوفا، ص – 228).
♦ ♦ ♦ ♦ ♦
الأيام تمرُّ، تحشو الألم بالأسى، تُثِير زوابعَ وعواصف، تلفَح النفس وتقتَحِم العقل، تَضرِب حوافَّ الزمان، وتقرض نهايات المكان، مقبرة ذنابة، صورة تُرافِق خطواتي ووقْع أقدامي، وجوه أولادي تتغَلغَل في صخور الأرض، تشدُّ جذورها نحو أعماقي، تضرب عَذَباتِها نسمات الربيع الراحل من ذاكرتي، صداع يَتلُوه صداع، وإبر تزرق في وريدٍ تلو وريد، والدي كان يدْعو الله بدعاء خاص: "يا رب، لا تُمِتْني إلا وتراب الأرض على قدمي"، دعوة أعرِف الآن عمقها وسرَّها، ألمس وبعزم ناهض حركاتِ نفسه وهو يُردِّدها، الآن أنا أتقمَّص دور أبي، دون إرادة أو تخطيط، أدعو نفس الدعاء، ونفسي تُلامِس نفسًا ترقد في مقبرة ذنابة.
قصة واقعية من ملفات القضاء.
كانت السيدة أم سليم بعد وفاة زوجها واغتراب أولادها طلباً للرزق قد اضطرت للإقامة بمفردها في أحد الأحياء الشعبية المكتظة بالسكان. كانت تُعرف بينهم بلقب أم الخير لما كانت تتصف به من طيبة ومن تقوى. كان من حولها يلجؤون إليها في الكثير من الأحيان لطلب المشورة، كما كان البعض يقترض منها المال على الرغم من أنها لم تكن من الأشخاص الميسورين جداً.
هرج ومرج في قاعة المحكمة... أصوات تعلو وتصخب... فوضى لم يسبق لها مثيل في أية قاعة من قاعات المحاكم. عَلَتِ الأصوات مطالبة بإعدام ذلك الرجل المحتجَز خلف القضبان... حشد كبير غصّت به قاعة المحكمة.
وفي الجانب الآخر يقبع رجل في متوسط العمر. رجل بوجه خالٍ من التعبير. رجل يبدو كأنه لا يعي شيئًا مما يحدث حوله. رجل توحي ملامحه بالكثير من المعاناة. كان ينظر إلى ذلك الحشد كأنه في غيبوبة غافلًا عن كل ما يدور حوله.
تحدث الفضائيون مقتربين من الأرض، ناظرين في أجهزتهم وشاشاتهم:
- كوكب به حياة متنوعة الأشكال والتركيب. فلنأخذ عينات.
- يبدو أن المخلوقات المنتشرة والمتحركة على طرفين هي السائدة والمنتجة.
استمر الطبق المحلق في الدراسة. قال أحد الفضائيين:
- تحليلاتنا تظهر أن أنواع الطاقة كثيرة وموارد الحياة غزيرة على كوكبهم لكنهم لا يتقاسمونها ولا يعيشون بنفس الانسجام والانتظام والتطور، وبعضهم يستحوذ عليها دون الآخرين.
أرسِلت العينة مع الشحنة الرابعة لمركزنا في أفريقيا. رد رئيس الاجتماع السري: "نعلم جميعًا علاقة والد د. صامويل بمجموعة كلوكس كلان". قال الأول: "لربما كان إرساله العينة لأفريقيا لغاية؟". رد الرئيس: "لا تقلها مرة أخرى". رد الثالث مبتسمًا: "تلك أمور أنهيناها حتى ما عاد لأحد شك بل رضى تام وانتظار لفائدة الأبحاث. الثغرة كانت زميلنا الذي أخذ بتعليمات رجل من خارج نطاقنا وهو د. صامويل وفريقه المعروفون والموثوق بهم بين العلماء". قال الأول قلقًا: "وترخيصنا لتلك التجارب في أفريقيا؟". رد الرئيس: "نعم، من أجل ذلك نختم تقاريرنا السابقة الآن بتوصيات عليا بأن البحوث العلمية، بتعليمات المختصين، حصلت على أرضها الصحيحة حيث تتوفر العينات والحيوانات، وبأن خروج الفيروس الشرس الناتج من مركزنا كان بسبب ثقة المتخصص المرسل من قبلنا واعتماده على مساعديه وأكثرهم من أصول أفريقية أغفلوا سبل الوقاية. بهذا نسد باب أي مراجعة في المستقبل إن حصلت". "نوافق ونجزم بالتأكيد، وأما عن الحالات التي ظهرت فقد بثثنا في الجرائد والقنوات أن الأوضاع الاجتماعية المتردية في تلك البلاد أدت إلى ظهور المرض، وقد أكدت ذلك مختبراتنا هنا وهناك ومعها منظمة الصحة، وحسم الأمر". قال الرئيس بخبث: "لربما كان إرسال العينة أفضل من بقائها هنا". قال الأول: "أرجو ألا يحصل مثلما حصل قبل سنين عندما خرجت أبحاث الفيروس التي أكملناها في أفريقيا عن المتوقع وتسبب الناتج في ظهور الإيدز". رد الثاني: "كلنا نعلم أن تلك النتائج الوخيمة على العالم كله قد انتهت الشكوك حولها بالتقارير التي نسبته إلى القردة". رد الرئيس "وكانت بصمات د. صامويل وفريقه موجودة في كل تلك الأبحاث، مدعومًا من جهات أخرى كما نعلم، فلنختم تقريرنا ونأمل في الأحسن".
الثامنة صباحًا، في أقصى الشمال الأوروبي، أفَقتُ كعادتي، تسلَّلت نحو الصالة لأُعانِق فنجان الشاي الصباحي، ولأحرق ثلاث دخائن، دخلت الحمام، غرقت تحت مياه حارَّة، يَتصاعَد البخار منها ليهرب من فتحة صغيرة، خرجتُ وكالعادة كانت القهوة التي أعدَّتها زوجتي تقتَحِم خلايا دماغي بقوَّة، فللقهوة مكانةٌ في قلبي لا يعرفها إلا المقرَّبون منِّي، أحرقت ثلاث دخائن أخرى، ارتديت ملابسي، وخرجت.
العاشرة صباحًا، موعِدٌ مع طبيبي الخاص، قدت السيارة إلى مكانٍ بعيدٍ عن العيادة؛ طلبًا للتمشِّي واكتِساب بعض أنفاسٍ من هواء نقيٍّ، لم ألتَفِتْ إلى شيء، ولم أدقِّق بأيِّ تفصيل؛ فالشوارع معهودة، وكلُّ ما عليها أصبح بسبب العادة لا يُثِير دهشتي أبدًا.
انتظرت في الصالة، كان أفراد دائرة السير يختَفُون خلفَ العيادة مباشرةً، يصطادون السيارات المارَّة، لا بُدَّ وأنَّ الراتب الشهريَّ الذي اقتَرَب كان همهم الأوحد، فلا بُدَّ لخزنة الدائرة أن تكتظَّ بالنقود، وبين ملامح هؤلاء والسائقين كان هناك اختلاف كبير.
خيوط غليظة التفّتْ حول قنوات فطرته الصغيرة منذ فطامه، حتى تعطل الاتصال بين خياراته والوعي وبين جوارحه والعقل وبين تعبيره والقلب. كلما صادف أشباها له أقدم وأعلى منه أضيفت إليه خيوط تزاحم أعصابه، تنغرز في أنحاء كيانه وتنعقد، حتى تحول بها إلى دمية معلقة بخيوط.
كثرت الخيوط والعُقد وهو لا يتعرف عليها ولا على مصادرها، لا يستطيع أن يعرف. قنواته الداخلية مسدودة، لا شيء في كيانه يُفضي إلى شيء. صار كومة أشتات ذاهلة كأنه الخلية المجهرية، فكانت استجابتها لجميع أنواع المؤثرات والتقلبات من حولها استجابة واحدة متكررة بتلقائية بسيطة ثابتة لا ملامح لها.
الصفحة 6 من 43