إنها نفس الأشياء دوما تواجهه، المكتب الصغير، الذي يتداعى كلما أدخل ركبيته معا تحته ليجلس على كرسيه، الأوراق المكدسة نفسها قرب الشباك المفتوح، الأيدي المنتظرة التي لكثرة ما رآها، راح يحفظها عن ظهر قلب: أيدي الحرفيين الخشنة التي تكدح طوال النهار، وأيدي التجار المتملصة، أيدي المعلمين الناعمة، وأيدي الفتيان المقبلين على رحلة الأوراق الشاقة، ....ولذلك لم يكن ينظر إلى الوجوه أو إلى الأعين إلا قليلا، حين يبدأ العمل، أو حين يضطره أحدهم إلى ذلك، أو حين يرى يدين ناعمتين جدا، من تلك الأيدي التي تشي عن نفسها وعن الترف الذي هي فيه.
العتمة منتشرة في الغرفة الصغيرة التي شهدت مسيرة حياة طويلة تلك المُسجاة على سرير المرض .... صمت أصمّ يلف المكان ... صمت أشبه بسكون ظلمة القبر ... همسات خافتة تشق ذلك السكون من حين لآخر تليها تنهدات لا تكاد تُسمع ... كانت تنظر إلى الشمعة الوحيدة التي تُضيء المكان وقد استرسلت بأفكارها وأخذت تهيم بذكرياتها مع اللهب المتصاعد غافلة عن كل ما حولها.
ها هي الشمعة تذوب شيئاً فشيئاً وسوف تنطفئ بعد قليل كما سوف ينقضي ما تبقى من أيام حياتها عما قريب ... فقد عرفت بمحض الصدفة على الرغم من أن الإنذار كان قد سبق أيضاً ,بما كانت تعانيه من آلام منذ أشهر, عرفت من نظرات الإشفاق التي يُلقيها عليها شقيقها وشقيقاتها بأن أيام حياتها باتت معدودة, وبأن ذلك الألم الذي كان يقضّ مضجعها لم يكن عابراً كما اعتقدت وكما اعتقد من حولها, وبأنه ليس سوى وعكة مؤقتة., وإنما كان الألم قد استأصل وانتشر من صدرها إلى كتفها.
عزيزتي لجين: أكتب لكِ هذه الرّسالة وأنا أعلم أنكِ غاضبة مني كثيراً؛ لأنني لم أرافقك إلى جزيرة (روغن)، واخترت السّفر إلى الشّرق. لكنك تعلمين أنني ادخرت من راتبي لمدة عام كامل حتى أستطيع القيام بهذه الرحلة، فمنذ طفولتي وأنا أحلم بزيارة المدن القديمة، ولقد أخبرتك كم أنا متعلق بآثار الشّرق القديمة قدم الزمن، وكم أنا مهووس بتلك الأساطير عن معابده وملاحمه، وكم أنا مغرم برائحة البخور المعتق المتسللة عبر فيافي الصحارى الممتدة امتداد السّراب، والغامضة غموض الأوهام. في رسالتي هذه أبوح لكِ بثلاث كلمات.
استحالت الثواني ساعات والأيامُ أسابيعًا. زاد شغفه بخطيبته وترقبه الاقتران بها، ومعه خوف خفي. "إياك أن تحرجني مع صديقي القديم الذي هو بمنزلتي منك، واحرص على الفتاة، أتسمع؟". إنذارٌ عالٍ من أبيه وجلاميد كلمات وعواصف أصوات من خاصة أبيه. ارتفعت في نفسه حواجز، وتضخم خوف من المستقبل فيكاد يحجم لولا تعلقه بالفتاة. وتزوج الشاب بعد حين. وصار مع التي أحبها متحرجًا لا تأتيه تلقائية التعامل. زادَ من الأصفاد سكناهُ التي جُعِلت له بين بيت أبيه وبيت أبي زوجته وصديق أبيه، فكان جاثوم المراقبة لا ينقشع. عاش الشاب مذ عرف الدنيا كساكن كهفٍ عميق، حالمًا بكوةٍ توصل النور والهواء، فلفتهُ بابٌ لامعٌ اسمه الزواج لعله يهرول منه حرًا مستقلًا. لكنه اليوم يرى الباب سرابًا. فهو لم يفارق كهفه مأمورًا بحراسة كل شيء ولا ثقةً به ليتصرف في أي شيء. الإنذارات تُلقى تباعًا وحال رفيقته معه كحاله
كان خالد عندما بلغ سنّ الخامسة, قد بدأ ينظر إلى الأشخاص وإلى الأشياء نظرة أكثر تفحصّاً وإدراكاً لمعنى الجمال., وكان أول ما لاحظه بشيء من الاستغراب ومن الأسف الشديد أن والدته , التي هي الشخص الوحيد الذي تبقى من عائلته, بعد وفاة والده وشقيقته الأكبر سناً في حادث مروري أليم عندما كان لايزال في الثانية , تضع دوماً نظارة سوداء على عينيها وأن ما تُخفيه خلف تلك هذه النظارة كان شيء مروّع فقد كانت لها " عين واحدة "...
نشأ خالد وهو يشعر بأن في ذلك ما يجعل والدته مختلفة عن جميع أمهات الأطفال الآخرين. وعندما خالد بلغ سنّ السابعة التحق بمدرسة تقع بالقرب من المنزل, لكن والدته, لشدّة حرصها عليه وتعلقّها به كانت تُصّر على اصطحابه إلى تلك المدرسة بنفسها. ولمّا كان الأطفال يفتقرون أحياناً إلى الكياسة الاجتماعية _ وهو الأمر الذي على كل منا أن يحرص على تنشئة أولاده عليها _ فكان بعض زملاء خالد في المدرسة يُدلون ببعض الملاحظات المزعجة حول والدة خالد "ذات العين الواحدة" مما جعل ما كان لدى خالد من أسف يتحوّل إلى ضيق وإلى نوع من النفور من مظهر والدته ., وهذا ما جعله يطلب منها ألا ترافقه إلى المدرسة زاعماً بأنه قد أصبح في السن التي تؤهله للذهاب والعودة بمفرده أسوة بباقي الأولاد... ثم أخذ خالد بعد ذلك يتجنب إعلام والدته عن مواعيد الاجتماعات وعن كافة المناسبات التي يُدعى إليها أهالي الطلبة كي لا يكون على والدته أن تظهر بين والدات الأولاد الآخرين بذلك المظهر الذي بدأ يعتبره ليس مثيراً للشفقة فقط بل مثيراً للاشمئزاز أيضاً...
سارة شابة في غاية الجمال، شقراء ذات بشرة ببياض الثلج، عيناها بلون مياه البحر، قامتها ممشوقة، لها صوت يشبه شدو العندليب. هي الابنة الوحيدة لوالدين رزقا بها بعد سنوات عديدة من الزواج، وأغلى ما لديهما في هذا العالم.
نشأت سارة في جو من الرعاية الفائقة، وحصلت على أكبر قدر من المحبة والدلال، كما تلقت أفضل التعليم، بحيث أصبحت محطّ إعجاب كل من حولها.
وكانت سارة عندما بلغت سن السادسة عشر قد بدأت تُحاط بإعجاب كل من حولها، ولم يكن ذلك يخفى على والديها اللذين كان تعلقهما بها يزداد يومًا بعد يوم، كما كان اعتزازهما بما تتمتع به من صفات خُلقية ومن جمال وكياسة قد تضاعف إلى أن تحوّل بالتدريج إلى نوع من التفاخر.
كان كل من حولها يتنبأ لها بمستقبل زاهر، وبزواج مثالي من شاب لا بدّ أن يتميّز بأعلى قدر من المواصفات.
وكان والدها يقول دومًا:
"ابنتي سارة كما ترون، فتاة مثالية شديدة الذكاء، رائعة الجمال؛ وهي بذلك تستحق بالفعل زوجًا مثاليًّا لا بدّ أن يكون ممن يعملون إما في السلك الدبلوماسي، أو ممن هم من مشاهير رجال الفكر، أو من كبار رجال الدولة".
وقفت "منى" تتأمل وجهها أمام المرآة , نظرت إلى جبينها الذي انتشرت فيه التجاعيد بحيث أصبح أشبه بشبكة عنكبوتية ... تجاعيد خطّها الزمن خلال سنوات حياتها الستين. تجاعيد يُشير كل منها إلى تأثير أحد الأحداث الهامّة الكثيرة التي مرّت بحياتها خلال سنواتها الستين...
ستون عاماً أيُعقل هذا !... كيف مرّت السنوات بها بمثل هذه السرعة أشبه بمرّ السحاب ؟ ها هي تجد نفسها قد بدأت تقترب من نهاية رحلتها في الحياة...
كم مرّة كانت قد تمنّت , وهي تنتظر ما سيحمله لها القدر في غدّها المُبهم, أن تمضي بها السنوات وأن تمرّ أيام حياتها بأكثر من سرعة ...
كم أملت أن تجد في يومها الجديد ما يُشجعها وما قد يمنحها المزيد من المقدرة على
الاستمرار في كفاحها المُضني ؟...
الصفحة 9 من 43