ياقوت الحموي يترجم للرازي:
"هو محمد بن عمر بن الحسين فخر الدين، أبو عبد الله الرازي، الفقيه الحكيم الأديب المتكلم المفسر العلامة، فريد دهره ونسيج وحده، فخر الدين أبو عبد الله القرشي التيمي البكري الطبرستاني الأصل، الرازي المولد، ابن خطيب الري الشافعي الأشعري:
علامة العلماء والبحر الذي ... لا ينتهي ولكل بحر ساحل
ما دار في الحنك اللسان وقلبت ... قلما بأحسن من ثناه أنامل "
ولد فخر الدين الرازي سنة أربع وأربعين وخمسمئة للهجرة، وتتلمذ على والده الإمام ضياء الدين، وكان من تلامذة محيي السنة أبي محمد البغوي، وكان إذا ركب يمشي حوله نحو ثلاثمئة تلميذ، فقهاء وغيرهم، وكان خوارزم شاه يأتي إليه. [1]
* مقدمة:
{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59].
أما بعد، فقد يبدو العنوان غريباً للوهلة الأولى. ولكن بعد التأمّل الجيد فيما سأعرضه وأبيّنه في هذا المقال، ستتجلى حقيقة الأمر، بإذن الله تعالى.
إن أكثر المثقفين المسلمين يجهل حقيقة علم أصول الفقه، ويخلط بينه وبين الفقه، فيحسب أنه أمهات مسائل الفقه، فكان لا بد من بيان حقيقته باختصار، ثم تمييزه عن علم الفقه، لأنتقل بعد ذلك للدخول في صلب الموضوع، والوصول إلى بيت القصيد.
أما الفقه، فهو في أشهر تعريفاته: "العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية". وكذلك يُطلق على الأحكام الشرعية العملية نفسها، من عبادات ومعاملات، ونحوها.
وأما علم أصول الفقه، فهناك عدة تعريفات له، تختلف بألفاظها وتتقارب بمعانيها، وليس المقام مقام عرضها والمقارنة بينها. ولكنني سأختار هنا أحدها، وهو تعريف جمهور الأصوليين؛ لأنه الأوضح والأقرب إلى تحقيق غرضنا.
ينص هذا التعريف على أن علم أصول الفقه هو: "العلم بالقواعد الكلية التي يتوصّل بها المجتهد إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية".
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد، فحينما كنت أعدّ حلقة إذاعية في تفسير بعض الآيات الكريمات من سورة المائدة، وكان منها قوله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:100]. لفت نظري كثرة تكرر كلمتي الطيب والخبيث ومشتقاتهما في القرآن الكريم والسنة النبوية، وأنهما تأتيان عامّتين مطلقتين في مواضع كثيرة، في الماديات المحسوسات وفي المعنويات المدركات بالعقل بالنفس، وتأتيان أوصافاً لأمور كثيرة، مادية ومعنوية أيضاً.
فعنّ لي أن يكون كثرة وورودهما وتنوّعه دالاًّ على ميزان ومعايير تضبط دلالاتهما، ليسير عليها المسلمون في حياتهما.
فرأيت أن أخصص جزءً من الحلقة الإذاعية لهذه القضية، ثم رأيت أن أكتب هذه مقالة فيها.
فما دلالات كلمتي (الطيب والخبيث) وما إليهما، في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة؟ وهل هناك روابط تجمعها؟ ثم ما الميزان الذي يضبط لنا هذه الدلالات للعمل بمقتضاها؟
عرفة
"الحج عرفة". عَرَفَة ذروة سنام الحج. هنا التصاعد، والترقّي، والتسامي.
هذا زمان العتق ومكانه. جاء في الحديث: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة"، والعتق هنا يتلاءم مع رحلة إعادة ولادة الروح، هي ستُولد روحا مُعتَقة من ماضيها، وستولد أيضا روحا قادرة أكثر من ذي قبل على الانعتاق من إغراء الذنوب. إنّها ليست روحا وليدة وحسب، بل نسخة مطوّرة تلقت التطعيمات اللازمة، تطعيمات لا تحميها من الذنوب المستقبلية بالمطلق –فهذه ليست مهمتها- لكنها تخفف من وطأتها. نعم، سيذنب الحجيج بعد الحج، لكن عتق من كُتب الله لهم العتق منهم يقضي بأن الذنوب ستكون أقليّة في أعمالهم.
عرفة، عرفات. تفاسير أصل الاسم كثيرة، منهم من قال إنّه مكان يتعارف فيه الناس أي يقيمون، فسمي عرفة. ومنهم من يقول إنّه المكان الذي التقى فيه آدم حواء بعد أن هبطا من الجنة، فعرفا بعضيهما. ومنهم من يقول إن جبريل طاف بإبراهيم وكان يريه المشاهد فيقول له: "أَعَرَفْتَ؟ أَعَرَفْتَ؟"، فيرد إبراهيم: "عَرَفْتُ، عَرَفْتُ"، فسميّ عرفة.
حذيفة بن حِسْل - ويقال حُسيل - بن جابر بن عمرو بن ربيعة العبسي، كان أبوه حِسل قد أصاب دما، فهرب إلى المدينة، فحالف بني عبد الأشهل، فسماه قومه اليمان لكونه حالف اليمانية وهم الأنصار.
عاش والد سيدنا حذيفة في المدينة، فلما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم كان حذيفة يتوق إلى رؤيته، فما إن التقى به حتى سأله أمهاجر أنت أم أنصاري؟
لكون حذيفة مكي الأصل مدني النشأة قال: بل أنصاري يا رسول الله، فضل أن يكون مع الأنصار.
في معركة أُحد في العام الثالث من الهجرة، قُتل والد سيدنا حذيفة بالخطأ بسيوف المسلمين، وكان أبوه مسلما، رأى حذيفة أباه يهوي صريعا على الأرض بعدما اختلطت السيوف بجسده، ما أن رآه حتى نادى بأعلى صوته، أبي أبي...
مات أبوه في المعركة بسيوف صديقة، وهذا وارد في أي معركة حربية.
احتسب سيدنا حذيفة أباه، وقال "يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين".
خروج وعروج
إيهِ يا ابن بطوطة! هذه الرحلة صنعتك الرحالة الذي نعرف. وماذا عنا نحن، كيف ستصنعنا هذه الرحلة؟ كيف ستغير حياتنا؟
هذه رحلة تحديد المصير، رحلة رسم المستقبل، رحلة الاكتمال، رحلة تشييد الركن الخامس. من الآن وصاعدا لا يجوز أن نعيش في ظل الهيكل القديم، هناك ركن جديد في بناء أرواحنا، ركن جديد يتكئ عليه إيماننا، يتقوّى به.
نحن الذين تقف الجغرافيا في صفنا، وتفتح المطارات أذرعتها لنا. هل وقفنا ونظرنا للحجاج الذين بجانبنا؟ تأمّلنا، تخيّلنا أولئك الذين ينتظرون القرعة؟ شعور أشقّ من انتظار نتائج الثانوية. شعور القلق، شعور الترقب. القُرعة، الصدفة، العشواء المنتظرة. لا شيء عشوائي وإن بدا ذلك، هي أقدار تتزيا بزي الصدفة. هي مكتوبات تبدو عشوائية. لا، ليس من حقنا ألّا نعيش تجربته! يجب أن نتعلم من الآن وصاعدا فن التماهي، فلنتدرب عليه من الآن!
فلنكن نحن هذا الإندونيسي السبعينيّ الذي أمضى الشباب والكهولة والمشيب يجمع ثمن الرحلة. فلنكن هذه المصرية المستوفزة كل عام تنتظر نتائج قرعة الحج. لن نذوق الحج حتى ننفق مما نحب، حتى ننفق تعاطفا، وتماهيا، وتعايشا، فهذا موسم اللقاء والتعارف والتعايش. هذا موسم لا نكون فيه أنفسنا، بل نكون الآخر أيضا. الشعب الآخر، القبيلة الأخرى، الضفة الأخرى، العِرق الآخر. هذا لئلا يكون الحج مجرد رحلة مرهقة، كرحلات زائري الكثبان، والسفاري، والشواهق.
هذه رحلة يجب أن تطوف فيها الروح كما يطوف الجسد. أن تخرج الروح من مألوفاتها، من عاداتها، من ما ترتاح إليه وفيه. هيا اخرجي يا نفس، اخرجي للجهاد، اعرجي للجهاد!
كنت -رغم وافر تعاطفي- أتضجّر سرّا من المُصلِيات اللاتي يضعن كراسيهن وسط الصفوف، ويُعقن سجود مَن خلفهن، ويؤثّرن على استقامة الصف. هذا إلى أن شاء الله أن أصلي في العشر الأواخر من رمضان هذا العام على كرسيّ لإصابةٍ عارضةٍ في رِجلي. يبدو أن الإنسان مهما أبدي تعاطفا ظاهريا، سيظل تعاطفه سطحيا وغير مكتمل المعنى، إلا إذا خبرَ التجربة بنفسه.
تجربة السجود في الهواء غريبة! ذاك الشعور بالحرمان من أن تمرّغ وجهك من أجله. الآن فهمت قيمة تلك المقاعد المزودة بمسند للوجه للسجود عليه. شعور لا يحتاج إلى مقالة، بل إلى أن تجربه بنفسك، كي تحمد الله على العافية، وكي تتقفن صلاتك، قبل أن تهرم أو تتعرض لإصابة وتنضم لجيش الساجدين في الهواء.
من ناحية أخرى، الصلاة جلوسا قضية فقهية لها ناسها من أهل العلم الشرعي والاجتهاد الفقهي، لكنها أيضا قضية تحتاج إجراءات تنظيمية، تحتاج قواعد تُعمم في المساجد ويُلتزم درءًا للاختلاف والجدال من ناحية، ودرءًا لأن يضيق بعضنا على بعض من ناحية أخرى.
الصفحة 6 من 17