الدواء الجسدي والدواء القلبي:
في الحكمة الإسلامية نجد أن الأمراض الإنسانية نوعان، فمنها ما هو جسدي، ومنها ما روحي أو قلبي.
ففي الأمراض الجسدية، نجد الحديث الاتي: عن مالك بن أنس عن زيد بن أسلم أن رجلا في زمان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] جرح فاحتقن الجرح بالدم وأن الرجل دعا برجلين من بني أنمار فنظرا إليه فقال لهما رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: " أيكما، أطب؟ ". فقالا: أفي الطب خير، يا رسول الله؟ [صلى الله عليه وسلم]: " أنزل الدواء الذي أنزل الداء ". فأمرهما رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يومئذ بمداواته فبطا الجرح وغسلاه ثم خاطاه (ينظر: موطأ مالك بن أنس، صححه ورقمه وخرج أحاديثه وعلق عليه: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان، ١٤٠٦ هـ - ١٩٨٥ م، 2/ 121).
أما ما هو روحي أو قلبي فهو ما يعالجه الشيخ ابن القيم في كتابه (الداء والدواء) وهو ما عالجه علماء مسلمون كثيرون قبله.
تكرار الموبقات:
كثيراً ما نسمع عن إنسان ما ابتلي بالمعاصي والموبقات لكنه لا يستطيع دفعها؟ وهناك الكثير من الأسئلة التي ترد إلى المفتين والعلماء لشباب يقترفون المحرمات ويكررون الموبقات، ويقولون: إنهم لا يستطيعون التوقف عن ذلك.
فهذا شاب مثلاً يذكر للمفتي أنه يتوب ثم يعاود ارتكاب المعاصي؟ فيقول: "أنا شاب في التاسعة عشرة من عمري، وقد أسرفت على نفسي في المعاصي كثيرا، حتى أنني لا أصلي في المسجد ولم أصم رمضان كاملا في حياتي، وأعمل أعمالا قبيحة أخرى، وكثيرا ما عاهدت نفسي على التوبة، ولكني أعود للمعصية، وأنا أصاحب شبابا في حارتنا ليسوا مستقيمين تماما، كما أن أصدقاء إخواني كثيرا ما يأتوننا في البيت وهم أيضا ليسوا صالحين، ويعلم الله أنني أسرفت على نفسي كثيرا في المعاصي وعملت أعمالا شنيعة، ولكنني كلما عزمت على التوبة أعود مرة ثانية كما كنت. أرجو أن تدلوني على طريق يقربني إلى ربي ويبعدني عن هذه الأعمال السيئة".
فيذكر له الشيخ المفتي أن دخول الجنة مرتبط بالتوبة النصوح، أي ترك الذنوب والحذر منها، والندم على ما كان منها، والعزيمة الصادقة على ألا يعود إليها من أجل تعظيم الله سبحانه والرغبة في ثوابه والحذر من عقابه (ينظر: عبد العزيز بن عبد الله بن باز (المتوفى: 1420هـ): "مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله"، أشرف على جمعه وطبعه: محمد بن سعد الشويعر).
وما يكابده هذا الشاب نسمع عنه كثيراً، ونقرأ عنه في أجوبة العلماء والمفتين على أسئلة ترد إليهم.
لمّا كان الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى مُحاضرًا في التفسير الموضوعي وعلوم القرآن بالجامعة الإسلامية بقسنطينة، لا تكاد تجدُ مكانًا تجلس فيه داخل المدرّج، فالواقف أكثر من الجالس، وفي الحضور الطّالب والطّبيب، والبعيد والقريب، من المنتسبين إلى الجامعة أو من خارجها، ومن خارجها أكثر.
والمشهد كأنّه خطبة جمعة، أو خطاب قائد في النّفير؛ المصوّرات والكاميرات والمكبّرات في كل جهة.
والشيخ مواظب على الحضور في الوقت، ولا يغيب، ودروسه ومحاضراته مسجّلة كلها في أرشيف الجامعة، بل حتى عند العوام.
كان رئيس المجلس العلمي، وعضوًا في لجان الفتوى، ومشاركًا في العديد من الملتقيات داخل الجزائر وخارجها، وله لقاءات تصادمية مع رؤوس العلمانيين والشيوعيين في بلدنا وقتئذٍ، في كم من موقف وملتقى، منافحًا عن الدين، ومقنعًا لمجادليه، بالحُجّة والتواضع.
تكلمنا في المقالة السابقة عن الفقر والفقراء، وقلنا إن الإسلام قد اهتم بالفقراء، ووضع الخطوات التي تقود إلى حل المشكلة دون استحداث لمشاكل أخرى قد يعاني منها المجتمع، واليوم نتكلم عن اثنين من هذه الخطوات أولاهما:
أولاً: معاملة الفقراء بالحسنى:
إن الفقراء على مر العصور والأزمان، وفى مختلف الأماكن والبلدان كانوا يعانون من الفاقة وقلة المال أو عدمه، كما يعانون من الإهمال وعدم الاحترام وقلة الاهتمام.
حتى قال بعضهم:
إن الغني وإن تكلم بالخطـــــــــــأ قالوا صدقت وصدَّقوا ما قال
وإذا الفقير أصاب قالوا كلهم أخطأت يا هذا وقلت ضلالا
إن الدراهم في المجالس كلها تكســــو الرجال مهابة وجلالا
فهي اللسان لمن أراد فصاحة وهي الســـلاح لمن أراد قتــالا
إعادة قراءة القرآن الكريم بعامة، وقراءة نبي الله إبراهيم (عليه السلام) خاصة. تعد ضرورة شرعية وحضارية، فأما الشرعية فإننا بدون القرآن لسنا من الإسلام بشيء.. وقد قال الله (عزّ وجلّ) في كتابه العزيز):فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا(.(طه/123ـــ124).
وعن أبن مسعود (رضي الله عنه):" من جعل القرآن خلف ظهره ساقه القرآن إلى النار، ومن جعل القرآن بين يديه قاده إلى الجنة".
وأما الضرورة الحضارية، فإنَّ القرآن الكريم هو هدى الله(عزّ وجلّ) في تنظيم العقل الإنساني بغية تحقيق النهضة الحضارية المنشودة للأمة لتأخذ موثقها الذي أراده لها الله(عزّ وجلّ)،(الشهود الحضاري).
وأما قراءة إبراهيم (عليه السلام) في القرآن الكريم، فللوقوف على منهجه في بناء العقل الإسلامي، وسلوكه الإيماني الذي جعل منه باني النهج الإسلامي العقلاني المؤدب بهدى الله تعالى.. ولمعرفة كيف سمانا المسلمين، وكيف هو أمة قانتة.. ولماذا أهتم به أهل الشرائع الأخرى؟
إن هذه القراءة تحقق للإنسان المسلم نهضة روحية نفتقدها اليوم، ونهضة أخلاقية تعيد ترتيب وجوده مع نفسه والعالم، ونهضة عقلية هو بحاجة إليها في مواجهة أعدائه.. مواجهة الحروب الشرسة التي تشن على الإسلام بأسلحة حديثة، اقتصادية وسياسية ودينية.
إبراهيم (عليه السلام) القاسم المشترك الأعظم بين الشرائع المختلفة اليهودية والمسيحية والإسلام، غير أنه أبن الدين الواحد عند الله (عزّ وجلّ) وهو الإسلام، أي: التسليم لله وحده لا شريك له، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.
يسعى هذا البحث إلى الوقوف على مكانة إبراهيم (عليه السلام) في هذه الشرائع، وكيف نظرت إليه، وما صفاته التي بوأته هذه المكانة، ومن أحق به؟
قال تعالى في سورة الحديد الآية 7:
{آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}[1].
وقال سبحانه في سورة فاطر الآية 15 :
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[2].
كان الناس في الأمم السابقة ينقسمون إلى طبقتين هما : طبقة الأغنياء ، وطبقة الفقراء.
وكانت مصر في عهدها القديم جنة الله في الأرض ، وكانت تنبت من الخيرات ما يكفي أضعاف أهلها عدداً ، ولكن الطبقة الفقيرة فيها كانت لا تجد ما تأكله ، لأن الطبقة الموسرة كانت لا تترك لهم شيئاً غير حثالة لا تسمن ولا تغني من جوع ، فلما أصابتها المجاعة على عهد الأسرة الثانية عشرة ، باع الفقراء أنفسهم للأغنياء ، فساموهم الخسف ، وأذاقوهم عذاب الهون[3].
الحمدُ لله وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى. أما بعد:
فإن المتأمل في أحوال المسلمين في هذا الزمان لا ينقضي تعجُّبُه من سوء أحوالهم وخِذلان الله تعالى لهم، وتلفُّه الحَيرة من كل اتجاه حينما يتفكر في أسباب هذا السوء وهذا الخذلان الذي هم فيه.
وقد تكلم في هذا الأمر كثيرون غيري، وكتب الكاتبون من المسلمين الذين يبحثون في أمراض هذه الأمة وأدوائها وكيفية علاجها. وربما كان من أشهرهم في العصر الحديث اثنان: الفيلسوف الكبير الشاعر الهندي محمد إقبال والمفكر الجزائري المعروف مالك بن نبي، رحهما الله تعالى، وبينهما وبعدهما كثيرون.
وكل عالم أو مفكّر أو كاتب أو شاعر، ممن يشغله تراجع الأمة الإسلامية بنحو عام، والأمة العربية بنحو خاص، عن قيادة الأمم، يتجه اتجاهاً أو ينحو منحىً يرى أنه "مكمن الخطر" وراء هذه الأمراض وتلك الأدواء التي أصيبت بها أمتنا منذ عدة قرون، ولعل أسوأها هذا القرن.
الصفحة 3 من 17